ثقافة

وصيّة

في وصيته الأخيرة والتي تعد من غرائب الوصايا طلب الماركيز الفرنسي العنصري دو شاكليت أن يتم دفنه في واحد من أعمدة الكنيسة التي ينتمي إليها، اعتقاداً منه أنها الضمانة الوحيدة كي لا تدوسه أقدام العامة والغوغاء من الناس؛ في حال تم دفنه تحت التراب.

تلك واحدة من الغرائب وهي ليست الوحيدة، إذ تسجل الكتب طلب رحالة فرنسي أن يتم استبدال التابوت الخشبي الذي سيدفن فيه بحقيبته المفضلة التي كانت رفيقة أسفاره وتجواله في أقطار العالم، بينما يحرص طبيب ما على أن يتقاسم أعضاء جسده؛ زملاء له في المهنة آملاً أن يتم الحفاظ عليها من التلف، بينما ينزع البعض إلى التبرع أو كفالة الأيتام، يختلف الأمر بينهم كل حسب أهوائه ومعتقداته والقيم التي يؤمنون بها، يلمس بعضهم الوجدان فيما يختارون، وينتزع آخرون الضحكة، كأن يترك أحدهم كل ما يملك لفتاة لطالما أعجب بأنفها الجميل، أو حين يصر آخر على أن يضاء تابوته بالكهرباء، إذ عاش حياته يخشى الظلام.
تبقى أولاً وأخيراً نوعاً من الرغبة في استمرار الذكرى في الأذهان، أو لعلها أحياناً أخرى الرسالة الأخيرة التي لم تتح له الحياة كتابتها، الأثر الوحيد الذي سيبقى بعد أن يتوارى الجسد؛ وتتلاشي الروح في الفضاءات البعيدة، ولا تساؤلات حتمية حولها، فلكل ما يهوى، لكن السؤال: كيف لوصية فنان مرهف عاشق للأرض التي عليها ولد وتعلم، ومن على خشبات مسارحها أطلق رسائله المغرقة في العشق، كيف لها أن تكون؟.
نضال سيجري الفنان الذي تعالى دوماً على آلامه وجراحه، وهانت في عينيه أمام الوجع الذي تعانيه بلاده، فحولها إلى طاقات خلاقة وإبداعات تجاوزت خشبات المسارح والشاشات وعدسات الكاميرات، بينما يذوب جسده؛ وتتآكل حنجرته بفعل المرض، يغالبه وينطلق أبعد فأبعد، حيث يجب أن يكون، إلى ساحات العمل الوطني داعياً هنا وهناك ومشاركاً فيما أتيح له من جلسات حوار مع الكل؛ ومع جميع الأطياف المخلصة على أرض الوطن، يدفعه حباً خالصاً وإيماناً كبيراً بالأرض والإنسان، منادياً يصارع صراخه البُحّة القاتلة: “وطني عم يوجعني” هاجسه الوحيد قبل الغياب بلاده “مو مهم حنجرتي، المهم البلد، سورية أهم”.
سيجري المبدع في كاليغولا والغول، نور العيون والترحال، المغترب بلا صوت في الخربة، في بيت العيلة وغزلان في غابة الذئاب، قانون ولكن، طعم الليمون، وأسعد.. هل سننسى يوماً أسعد الطيب ابن “الضيعة الضايعة”.
وهل تتسع بضعة أسطر لذكر نتاج تعبَ وإبداعَ سنواتٍ من العمل المخلص والمحب، الذي يستند إلى تاريخ صاحبه الجميل كما تاريخ بلاده “من كان أجداده هؤلاء العشاق، سلطان باشا الأطرش، إبراهيم هنانو، فارس الخوري ويوسف العظمة، حسن الخراط، القسّام وجول جمال، صالح العلي القباني وبدوي الجبل وسواهم الكثيرون من العشاق، فعليه ألا يخاف”.
أيها العاشق الجميل ربما لا يتسع المكان لذكر كل شيء؛ إلا أنه لا بد يتسع على الأقل لترك وصيتك للتاريخ والمحبين ولمن يعتبر: “وطني مجروح وأنا أنزف، خانتني حنجرتي؛ فاقتلعتها.. أرجوكم لا تخونوا وطنكم”.

بشرى الحكيم