ثقافة

كمال خير بيك.. الشاعر الذي رأى موتنا

هذا الرعب اللّابس وجه الله
هذا الموت اللامتناهي
ريح تزرع رعب اليقظة
فوق شفاهي
هل كتبت هذه الكلمات قبل عشرات السنين أم تراها كُتبت الآن؛ بينما قلب ووجدان قائلها، يرقب الوطن الذي غادره باكراً، أم هي الحاسة ما بعد السادسة؛ تلك التي تسكن الشعراء يستشرفون بها أحداث الغد القادم، يرون كيف يتسلح القتلة اليوم باسم “الله” يلبسون الباطل رداء الحق، والجريمة ثوب.. الجهاد.

رأى موته!!
لكأن كمال خيربيك كان يقرأ ما سيجري على تراب وطنه اليوم؛ حين شرح  فلسفته التي يرى من خلالها التطرف، الحق والشجاعة، في مقال نشر في العام 1960: “التطرف كل الحقيقة، والاعتدال نصف الباطل، الاعتدال رفض جزئي للحق، كما هو رفض جزئي للباطل.. الحق الذي يحمل شيئاً من الباطل أو يشارك فيه ليس حقاً، إذ أن الحق لا يتجزأ؛ ولا يقبل المشاركة”. ذلك أنه آمن أن الحق قيمة إيجابية تتحرك إلى الأمام والأعلى، إذ هي قيمة وجود، بينما لا يرقى الباطل إلى أن يسمى قيمة” إن هو إلّا “قيمة سلبية عدمية” ولذا فإن التطرف في الحق هو شجاعة في المبدأ والطريقة، وهو ما كان الإيمان المطلق له والفعل أيضاً “هذه الضفة أو تلك، والواقف بين الضقتين يأخذه التيار إلى غير رجعة” مبدأ حياة وفعل حياة أيضاً، ذهب به إلى أقصاه  ليستحق أن يحمل اسم الشاعر المقاوم.. والشهيد؛ الشهيد الذي رأى موته:
مثلكم تتراكض كل العصافير في شجر الاعتقال
مثلكم يتصاعد صوت الينابيع مذبوحاً،
وبعض الرجال أقسموا أن يحاصروا
الشاهد الوحيد على مسرح الاغتيال

مثلكم
كنت فوق الرصيف ملقى وجرحي ساهر
يتنفس صوت الرصاص
كنت ميتاً على الرصيف
وحولي وطن هارب
ومر بي حصاني
ولذا مرّ من جانبي حارس الجراح
لكنه لم يشأ أن يراني

قدموس
هو “قدموس” الاسم الحركي الذي رافقه منذ بدأ وعيه للقضية الكبرى، وبدأ وعيه القومي يتشكل، ليصبح همه الأول، وكمال خيربك الذي انصرف عن الكتابة إلى النضال فكراً وعملاً، يبقى الشاعر الفذ الذي أفرغ عصارة وجدانه شعراً؛ على ما توفر لديه من قصاصات ورقية وبقايا علب دخان ، ليتم جمعها بعد رحيله في مجموعة أعماله الكاملة، بمجهود من الشعراء أدونيس وغسان مطر، بدر الحاج ومخول قاصوف، وكان في عمر الخامسة والعشرين أصدر ديوانه الشعري الأول  موقعاً باسمه الحركي في العام 1960، بعد خمس سنوات أصدر ديوانه الثاني “مظاهرات صاخبة الجنون” باسم كمال محمد لينصرف إلى السلاح والمقاومة مودعاً أشعاره الأدراج “الفعل كان حينها للسلاح، ونهضة المجتمعات لا تقوم بالكلمة والأشعار وحدها، هو إيمانه آنذاك “القوة هي الكفيلة باستعادة الحق” رغم امتلاك كلماته سحرها الخاص منذ بداياته الأولى، لتأتي مرحلة الخمسينيات مرحلة وافرة العطاء في بيروت التي  كانت خياره بعد 1955؛ رحل بعدها إلى باريس في العام 1961، حيث بدأ العمل على أطروحته “حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر” في السوربون، وأكملها في جنيف في العام 1972، نال عليها درجة الدكتوراه، والتي شكلت فيما بعد مرجعاً للكثير من النقاد والمهتمين.
له دواوين أربعة عي البركان ، دفتر الغياب، وداعاً أيها الشعر ومظاهرات صاخبة الجنون ومقالات وكتب أخرى.
ليس من السهل الحديث عن الشاعر كمال خيربك في ذكرى رحيله، لكنها تبقى كلمة حق تذكر بالشاعر الذي ارتأى ألّا يركن إلى الكلمة وحدها سبيلاً لمقارعة العدو بل اختار الصراع على الجبهات الأكثر وقعاً وتأثيراً؛ في زمن احتاج السلاح والمواجهة الفعلية، لوحق واعتقل مرات عديدة؛ وتعرض لأكثر من محاولة اغتيال في فرنسا، عمل بالتنسيق مع الثورة الفلسطينية، وقاد عمليات للمقاومة في الخارج بالتعاون مع كارلوس وعدداً من رفقائه؛ كان من نتائجها عملية ميونيخ الشهيرة، وأنابيب النفط في إيطاليا، وعملية أوبيك. ليأتي استشهاده اغتيالاً  في الخامس من تشرين الثاني 1980 مع رفيقيه بشير عبيد وناهية البجاني، رحيلاً مشرفاً لرجل رأت فيه إسرائيل خطراً كبيراً فأعلنت عن موته في إذاعة العدو بالقول: “قتل في بيروت اليوم، الإرهابي كمال خيربك؛ الملقب أبو زياد، وكمال خيربك له علاقة مع عدد من الإرهابيين الدوليين وترأس لفترة طويلة تنظيماً يضم كارلوس وعدد من المخربين ويعتبر ابرز المعاونين للإرهابي وديع حداد”.
بشرى الحكيم