ثقافة

توفي جانسون.. عالم من الخداع والشكوك!

أصدر “الكلب” وقد تأخر على طريق المنارة، دمدمة تحذيرية بصوت منخفض وعميق من حنجرته، “اهدأ” أمرته كاتري “اتبعني” لقد كانت تعطي الأوامر لنفسها، فالمسألة الآن تتعلق بضبط النفس والتركيز، لا غير؛ وقد تستمر اللعبة، والآن يمكنها القتال بأسلحتها الخاصة، وهي أسلحة كانت تؤمن بنقائها، هو ما كان يعتمل في عقل “كاتري” إذ إنها خططت للأمر وها هي قاربت الوصول.
عُرفت “توفي جانسون” في بلادها كواحدة من العاملات في مجال تأليف قصص الأطفال وأيضاً رسامة للشخصيات الخيالية المفرطة في الطيبة “المومينز”، وهي الصورة التي حاولت الخروج منها في روايتها “المخادع الحقيقي” التي كانت واحدة من أعمالها الموجّهة للكبار.
الرواية بمجملها تقوم على تقديم فكرة “الخداع” والمراوغة كصفات غريزية يمتلكها الجميع؛ بشراً وكائنات حية أخرى. يستخدمونها في معاملاتهم الحياتية كل بطريقته، لا تستثني في ذلك أحداً، حتى إنها تدين نفسها أحياناً باللجوء إليها، لا بل إنها تكاد تخدع قارئ روايتها.

كاتري وآنا
لطالما أثارت كاتري شعوراً بالانزعاج لدى أهل قريتها، بشخصيتها النافرة من الآخرين، وعينيها المشوبتين بالاصفرار، حتى إنهما لا تشبهان في ذلك أحداً سوى كلبها الذي ترفض إطلاق أي اسم عليه “لا بد أن يكون للكلاب اسم” يستنكر جيرانها دوماً، إذ كيف سنناديه؟!.
تعيش وحيدة في منزل فوق التلة الباردة مع شقيقها الوحيد ماتس، الذي تقوم برعايته بعد أن رحل الوالد في أحد الأيام ولم يرجع، تُعيل نفسها؛ من خلال متابعة حسابات متجر القرية، بينما يحاول ماتس العمل كلما سنحت له الفرصة مع صيادي القرية، حيث شتاء المنطقة البارد، والثلج الذي يخيّم طوال العام لا يترك فرصة عمل لأحد، نظام حياتها وطريقتها الفجة في التعامل مع الآخرين، نفور الكلب منهم، بنى جداراً بينها وبين محيطها، الذي لم تكن تنتمي إليه أساساً، إلى أن تقتحم “آنا” حياتها في مفصل من الرواية “آنا” التي تعمل في الرسم للصغار وتكتب رسائل وقصصاً موجهة إليهم، تحفل جميعها بالطيبة والرقة كما شخصيتها، لتغدو الحياة حولها غابة للصغار ترعى فيها الأرانب الطيبة بفرائها الناعمة، كلابها لطيفة لا ترفض مطلباً لأصحابها، سيدات كبيرات في السن وعجائز، مليئات طيبة وودّاً، وشبان في مقتبل العمر، أجواء بعيدة كل البعد عن الغدر، كل من فيها قادر على الخروج من مكائد الآخرين، بالحيلة الطيبة، بما في ذلك نوازع الشر الخفي الذي لا بد من وجوده داخل كل منهم.

من يتلاعب بالآخر
تشكّل الاثنتان محور الرواية الرئيسي؛ شخصيتان لا يجمعهما سوى مكان العيش، القرية الصغيرة، والعزلة التي تحيط بحياة كل منهما، بينما تفرّق بينهما النوازع الداخلية ومنظور مختلف إلى الحياة بشكل عام، لتبدأ بعدها عملية التغيير التي تطرأ على الاثنتين، على القناعات والأفكار الأساسية التي تتبنيانها، إذ لطالما ركنت آنا إلى القبول بالآخرين بالصورة التي يرسمونها عن أنفسهم، لا ترغب بكشف حقيقة أحد حتى لو كان يلجأ إلى خداعها، بينما تنحو كاتري بعد أن تعرفها؛ إلى المراوغة والخداع الحقيقي، معتمدة على معرفتها الوفيرة بالحسابات المالية التي تمارسها في المتجر، ترسم خططها للحصول على نصيب لها من مردود مبيعات كتب آنا ورسومها، تتوالى أحداث الرواية؛ تسبر عبرها الكاتبة أغوار شخصياتها؛ تكشفها شيئاً فشيئاً، بأسلوب مراوغ واضحة حيناً ومتخفّية خلف شخوصها أحياناً أخرى. ليبدأ الشك يعتمل في نفس القارئ ويتساءل أين يكمن الخداع، من يتلاعب بالآخر، والأهم: هل أصبحت أنا كقارئ ضمن اللعبة، رواية تحتاج إلى قراءة متأنية عميقة، كي تتلمّس بداية خيط يوصل إلى الإجابات المرجوّة.
“توفي جانسون” روائية ورسامة فنلندية، تحمل شهادة فخرية في الفلسفة، إلى جانب دراستها للفنون الجميلة، حازت جائزة هانز كريسشن في عام 1966 عن آخر الأعمال الموجهة للصغار، بينما نالت جائزة الأكاديمية السويدية في عام 1994، كانت روايتها “ابنة النحات” أول أعمالها للكبار؛ ألحقتها بروايات خمس “المخادع الحقيقي” واحدة منها؛ صدرت في عام 1982، ونالت عنها جائزة أفضل رواية مترجمة إلى الإنكليزية في عام 2011.
بشرى الحكيم