ثقافة

إلـى أيـن؟!

عبد الكريم النّاعم

حين تتشابك الأمور، في مقطع ما من مقاطع الحياة، قد يُصاب مَن يُواجهها بشيء من الحيرة، متسائلاً: من أين أبدأ في هذه (الكَبْكوبة) المعقّدة المُتداخلة من الخيوط، ولكي لا يبدو السؤال معمَّماً أحدّد أنني بصدد علاقة الشعر تحديداً بتراثنا العربي.
الذي دعاني لهذا التوقّف ما أطالعه في بعض الصحف والمجلات، وعلى صفحات التّواصل الاجتماعي التي خلقتْ فضاء مغرياً، قاتلاً في بعض جوانبه، فكلّ صفحة من الصفحات هي منبر صاحبه، ويستطيع أن يكتب فيه ما يشاء مقتنعاً أنّه يُقدّم (إبداعاً) ما، حين تتوسّل مادّته أن تتشبّه بالإبداع، وتصله عشرات الإعجابات من أناس قد لا يكون حالهم أفضل من حاله، وبذلك يجري تتويج ما لا يستحقّ، ورفْع ما لا يُرفع.
أخطاء في اللّغة لم نعرف مثيلاً لها في الانحدار من قبل، لكأنّها الشاهد الذي لا يُدحَض على مقولة أنّ اللغة تزدهر في أزمنة النّهوض والوعي، وتنكفئ وتتبدّد في أزمنة الانكسار، حتى إنّ المذيعين في البث المرئيّ أو المسموع انحدروا ذلك الانحدار، ولم تشفع لهم اللهجات الدّارجة التي هي إغراق في القطريّة أو الجهويّة.
تحطيم لأوزان الشعر لدرجة أنّ البعض لا يأبه بهذا الأمر إذا نبّهتَه، بل يرى فيك وفي رأيك أنّه من مخلّفات ما قبل الفيسبوك، وقد يسخر من تشبّثك بهذه الأصول، وهو لا يُدرك أنّه حين يُسقطها يُسقط معها قيمها المعرفيّة والجماليّة.
تتحرّك مشاعر ما في صدر هذا الشاب أو تلك الصبيّة فيندفع ليُعبّر عنها، فيصدّق نفسه أوّلاً، ويجد مَن يُؤيّده على غير علم، وقد يُدعى إلى بعض النشاطات في أحد (المطاعم)، أو تدعوه جهة ما أهليّة، فإذا هو/هي ممّن يرتقون المنابر، ويُصفَّق لهم، وتُلتقط له الصور من حملة الموبايلات، وقد تُرسل هذه الصور إلى العديد من الأماكن، وهو بعد (فرخ) مازال منقاره أصفر، بحسب أحد التعبيرات القرويّة في بلادنا!.
سألت أحد الذين زاروني، وأنا لا أردّ زائراً، ممّن قرأ لي ما قرأ، وتحمّلتُ أن أسمع الأخطاء في اللفظ، واللغة، وتحطيم الوزن، وتركيب القوافي تركيباً يدعو للضحك المرّ، ودون أن أُعلن ذلك سألتُه:
“لِمَن قرأتَ من شعراء العربيّة، قديماً وحديثاً”؟.
بدا عليه وكأنّه يسمع لغة لم يعرفها من قبل، وخيّم على وجهه الوجوم.
أردتُ أن أساعده وأن أفتح أمامه باباً لتلك المسافات التي يحلم بارتيادها، فقلت:
“لمَن قرأتّ من الشعراء، في عصور التقسيم الشعري المعروفة، من الجاهلي، إلى الأموي، إلى العبّاسي، إلى عصر النّهضة، إلى الحداثة إلى ما بعد الحداثة”؟.
كدتُ أسمع طقطقة نشفان ريقه في حلقه، فرثيتُ لحاله، وقلت:
“أنا لا أريد إحراجك يا ابن أخي، ولا إظهار ضعف فيك لا سمح الله، ولكنْ سأستعير ما كانت عليه تقاليد المِهن، فقد كان مَن يريد تعلّم صنعة ما يعمل عند معلِّم فيها عدداً من السنوات لتؤهّله ليكون معلّماً، أي أنّه يتتلمذ على يد أستاذ، وأنت كما أرى خرجتَ باندفاعتك مباشرة إلى الأستذة.. يا ابن أخي الذي لم يقرأ الشعر العربي قديمه وحديثه، بتمعّن، وبتدقيقِ مَن يكتشف الجماليّات فيه، والذي لم يقرأ نقد الشعر لكبار النقّاد المعروفين، والذي لم تفتنه تلك القصائد الرائعة، وذلك الشعر الحيّ، سيكون من الصعب عليه أن يغدو معلّماً في هذا (الكار)، لا أريد منك أن تيئس، فأوّل علامات الإيجاب (الرّغبة)، ولكنّ رغبتك في أن تتسلّق الشجرة للوصول إلى ثمارها لا تتمّ بمجرّد حصول الرغبة، بل لابد من البحث عن: كيف تصعد.. يا ابن أخي سلامة اللغة أساس، والثقافة أساس، و(الموهبة)، حين تُوجد، ولا تجد مقوّماتها فإنّ بذرتها لن تُنتش انتاشاً سويّاً.
أعتقد أنّ حجم الفساد المنتشر، والسمسرة، وإدارة الظَّهر إلى القيم الأخلاقيّة الرفيعة، وحجم الخراب والدّمار الذي يحيط بنا، هذا كلّه، سابقاً ولاحقاً، قد مهّد لمثل تلك الكتابات التي يسمّونها (شعراً)، فالخراب يجرّ الخراب، وإذا كان للثقافة دورها الرياديّ في النّهوض، فذلك يعني أنّنا بحاجة إلى جهود خارقة للخروج من هذه الوهاد!.
aaalnaem@gmail.com