الرواية ديوان العرب المعاصر.. ولكن
تُرى عندما شاع في تداول المؤسسة الأدبية العربية، أن الرواية قد أصبحت هي ديوان العرب، وذهب منظرو هذا الاتجاه إلى الإيحاء بالدور الباهر الذي يؤديه الجنس الروائي في عالمنا العربي، فهل كان القصد من تلك الفكرة الموحية –على الأقل- الإيحاء أكثر باستدعاء لفظة (الديوان)، إلى حقل الشعر والشعريات التي فاضت في السرديات على اختلاف فنونها؟.
ولعل مثل هذا الإيحاء سيأخذنا إلى إمحاء الحدود بين النثر والشعر، بل تداخلهما على نحو يقود مغامرة الكتابة إلى آفاق قصية، وإلى ذرا أكثر قدرة على التخييل، وبالمقابل سيبدو تعبير القصة القصيدة على سبيل المثال هو الأقرب للأمثلة، والمثال الأكثر دلالة في الكثير من شواغل المبدعين، الذين هجسوا بالرواية بوصفها ذلك العالم الأثير، القائم على تجسيد الحياة بمرآة الفن، والتقاط ما يمكن للمخيلة أن تصطفيه، وما يمكن للغة أن تجهر به، وذلك لا يعني على الإطلاق أن المرويات لم تبتعد أو تُفارق ذلك، لا سيما تلك التي عرفها الأدب العربي خلال فترات خصوبته الإبداعية، وثراء تجاربه المؤسَسَة.
فماذا يعني حضور الشعرية في الرواية خارج (المناصات والتناصات) التي يتوسلها المبدع، ليضيء بها متون عمله الإبداعي، لا سيما إذا فاضت بحضوراتها وأصواتها، لدرجة أننا إذا اقتطعناها من تلك المتون، ربما نقف على قصائد بعينها أو أغنيات، لكن وجودها بحكم أنها سياق للكثافة الجمالية، يمنح متخيل -الكاتب- الحرية قدر الإمكان ليوجد المعادل الجمالي والتأليفي، إضافة إلى المعادل الواقعي لذلك العمل، لكن ذلك بوصفه مغامرة سيبدو أن التعويل على ذلك وبإرهاق اللغة، اللغة بوصفها حاملاً دلالياً، سيقود إلى هدر لكثافات جمالية، لن تمنح ذلك الصوت حريته الممكنة، أو نقاءه المنشود، لأن الشعرية هنا ليست بذلك الاستنبات القسري، بل هي الحالة والسياق والمناخ، هي تأثيث للأزمنة والأمكنة بالأرواح، والأمثلة في استدعاء الذاكرة الثقافية كثيرة في هذا المجال، وفي أعمال وقف بها سؤال الشعر حائراً، بوصفه ضيف سرديات توسلت أن تقاسمه لتفيض بدال الجمال وهو جمال غير محدود، وربما في ممارسات إبداعية بعينها يحلق الشعر في متون سرديات ألفناها، كانت في زمن مضى لإدوارد خراط ولحيدر حيدر وغيرهم ممن كان هاجسه الأعلى هو الإصغاء للروح، ومع ذلك إذا أردنا مساءلة هذه الشعرية الطافحة، إلى أين تأخذنا بمتخيلها وأدائها الجمالي الذي يتواتر في غير مروية تنكبت حداثة الشكل والمضمون، وسعت لئن تنتصر للروح في غمار الأزمة والحرب، إذ هي وفي بحثها عن المعادل الجمالي/الموضوعي والكتابة ستفضي بنا ليس إلى النص فحسب، بل إلى النصوصية المفتوحة والحاملة لرؤيا كتابها ومبدعيها لا سيما في راهننا الإبداعي الذي فاض به الشعر على حساب السرديات، بل تعالق الشعر بالسرديات ليمنح تخصيباً للنصوص العابرة والمخترقة، شريطة أن لا تطغى اللغة وحدها وأن لا يكون اقتصاد النص على حساب التخييل الضروري والمدهش، والذي نتوسله –كقراء محتملين- لنقف على بهاء الروح السوري في حيازته الحق والخير والجمال، فإن تتباطأ الرواية قليلاً لتخصب منجمها فهو أمر طبيعي، ولا يحمل على الاستغراب، لأن ما يكتب الآن سيصبح في قادمات الأيام وثيقة لذاكرة ثقافية تستعيدها الأجيال، لتقرأ فيها تجليات أدب الحياة على تفاوتها واتساعها، لكنها الأجدر بالالتقاط لتبني الروح هذا العالم من جديد، وتعيد اكتشافه كلما سنحت مغامرة إضافية تقاربه، هي مغامرة القراءة رغبة بتتبع العلامات الدالة، والتي تذهب للنوع خلاصة وانتظاراً في مغامرة الحياة واحتدامات فصولها، إذن ما الدرس الذي يجب استخلاصه مما تفيض به شعرية الواقع والخيال، شعرية الإنسان الذي يلتقط شرطه الإنساني الآن: الكتابة بوصفها مقاومة.
أحمد علي هلال