ثقافة

الأم في الروايـــة …. والحقيقــــة

في روايته الشهيرة” الأم” يقدمها مكسيم غوركي رمزاً بات عالمياً، هي التي يملأ الخوف والخشية قلبها على ابنها من أصدقاء باتوا لصيقين به ترقبهم يقومون بأعمال لا تفقه منها شيئاً يطبعون المنشورات ويوزعونها، يخوضون المخاطر رغم الأعين التي تترصدهم، ويواصلون العمل حتى النهاية، وذلك بعد أن يموت الزوج مصدر عذابها الأول، وتفتح لها الحياة أبواباً لحرية لم تعرفها أبداً، لكنها لا تُذهب عنها شعوراً بالخوف تجاه وحيدها، الذي كان مختلفاً عن أبناء الحي بعيداً عن الشرب الذي اعتادوه جميعاً، يمضي أغلب أوقاته بين الكتب، يقرأ أشياء لا تفقه لها معنى، وبرغم أميتها التي لم تتح لها يوماً أن تخوض فيما يتحدث به ورفاقه، لكن عاطفتها كأم تدفعها كي تؤمن أنه لابد قد كرّس نفسه لقضية كبرى تتجاوز فرديته مقاربة قضية جوهرية كبرى، فيتغلب شعورها بالفخر على خوفها البديهي كأم، وهي تراه يقود الاجتماعات الكبيرة، يتحدث بأمور لا تفهم لها معنى بينما يصغي إليه الآخرون باهتمام، ما يجعل مشاعرها تفيض لتعمّ الجميع فتراهم أبناءً لها، تحيطهم برعايتها واهتمامها، وتكتسب معنى جديداً ومغايراً لحياتها، تنخرط بينهم، تجاريهم في النقاش ومخاطر العمل الفعلي، تتبنى قضيتهم، فتصبح جزءاً من حركة النضال، إلى درجة أنها، فيما بعد، وحين يتعرض ابنها للاعتقال والنفي إلى سيبيريا، لا تضيع وقتها في بكاء لا تراه يجدي، بل تواصل في تأدية ما يتوجب عليها من النضال… إذ علمتها الحياة أن ليس ثمة وقت للدموع بينما القضية قضية وطن، تقدم حقيقة واضحة وهي أنها وهي الأم البسيطة، التي لطالما تعرضت لظلم البيت والمجتمع وقضت جل أيامها في ظلمة منعتها من أن تتبين ما بداخلها من إيمان إلهي، فكيف بعقيدة فكرية أو قضية سياسية تناضل لأجلها يمكنها أن تكون القدوة، يقودها قلب الأم قبل العقل.
هي ذات الصورة إن لم تتعداها في رواية غسان كنفاني “أم السعد” حيث يقدمها قائلاً: “لقد علمتني أم السعد كثيراً، وأكاد أقول إن كل حرف جاء في السطور التالية، إنما هو مقتنص من شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء، ومن كفيها الصلبتين اللتين ظلتا رغم كل شيء، تنظران إلى السلاح عشرين عاماً، أم السعد ليست امرأة واحدة، ولولا أنها ظلّت جسداً وعقلاً وكدحاً في قلب الجماهير وفي محور همومها، وجزءاً لا ينسلخ عن يومياتها، لما كان بوسعها أن تكون ما هي عليه” و”لذلك فقط كان صوتها دائماً بالنسبة لي هو صوت تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غالياً ثمن الهزيمة”.
وأم السعد “التي اعتادت أن تزيّن عنقها برصاصة فارغة بديلاً للذهب” هي النموذج الرائع والمميز الذي قدمه كنفاني للأم التي كانت على الدوام، عنصراً فاعلاً في حركة النضال الفلسطيني، تقدم وتضحي وتشارك بكل قواها متجاوزة الممنوع والمسموح، في سبيل الفعل النضالي، فشكلت المخيمات بكل بؤسها والفقر والحرمان، منطلقاً لها؛ تلد الأبناء كي يصيروا فدائيين “هي تخلّف وفلسطين تأخذ” وهي الأم لولدين “سعد وسعيد” لم تهزمها الهزيمة ولم تكسرها فانتزعت غصناً يابساً من دالية وزرعتها أمام بيت غسان كنفاني قائلة له؛ إنه لابد لهذا الغصن اليابس أن يثمر يوماً يدفعها إيمان فطري بأن لابد بعد الهزائم من نصر يولد ويكبر.
وأم السعد يتعرض ابنها للاعتقال من قبل المحتل، لكنها ترفض رغم أمومتها أن تلجأ للتعامل مع من خان الأرض كي تستعيد ابنها، وهي مثلها كمثل أم “غوركي” امتلكت وعياً ثورياً عفوياً أن النضال هو السبيل الوحيد للخلاص من ذل الاحتلال؛ تقول بعد أن رفضت وساطة المختار الخائن؛ والذي ساوم الأهالي لمهاودة الإسرائيلي؛ في مقابل إعادة أبنائهم، وقد آمنت أن على الجميع التضحية ولو بالأبناء: “أود لو عندي مثله عشرة” “فإذا لم يذهب سعد، فمن يذهب”.
وبرغم أنها مثلت الأم التي هدّها الفقر، لكنها امتلكت الوعي لأن تقول: “أنت تكتب رأيك، أنا لا أعرف الكتابة، ولكني أرسلت ابني إلى هناك” وكأنها تقول لغسان كنفاني، أنا لدي رأي يوازي رأيك أجسده بالفعل، في تجسيد رائع لصورة الأم الرافضة للخنوع والذل، والمتمردة على الهزيمة، صاحبة الإرادة الصلبة المؤمنة أنها تستطيع المشاركة في صناعة مستقبلٍ للوطن؛ مشرقٍ بعيداً عن التمزق الذي فرضه المحتل”.
وأما اليوم فماذا يمكن أن نقول، ما الذي يمكن للتاريخ أن يقوله غداً؛ وهو يستعيد صورة ما يحدث هنا.  في رواية الأم يقول بافل لأمه رافضاً خوفها وخشيتها التي تعيقان تقدمه في العمل النضالي: “عليك ألا تحزني، يجب عليك أن تفرحي” ويكمل: “أي متى ياربُّ، يكون عندنا أمهات يُسعدن حين يُرسلن أبناءهن إلى الموت لأجل الإنسانية” أقول أليس من دعوة تعيد غوركي؛ أو تعيد بافل، فيرى بأم العين أنّه على أرضنا وبيننا أمهات لا بد سيثلجن صدره؛ فيزغردن فخراً بينما النعوش تمر أمامهن، حاملة أجساد الأبناء أو ما تبقى من الأجساد، ويُفسحن الطريق لإخوتهم: تابعوا الطريق.
بشرى الحكيم