ثقافة

ممتاز البحرة.. تصفيق حار للفنان العائد من العزلة

فاجأ الحضور على غير ما هو متوقع وحضر بعد أن اختار منذ سنوات عزلته بعيداً عن الناس طلباً للراحة والهدوء، واستقبِل بتصفيق حارّ من قبل حشد كبير من الفنانين والإعلاميين ومحبيه الذين توافدوا لحضور معرض وندوة “تحية إلى فنان الطفولة ممتاز البحرة” التي دعت إليها مديرية ثقافة دمشق -مركز ثقافي أبو رمانة- بالتعاون مع مجلة الأطفال “أسامة” مؤخراً.. وتنقّل البحرة بين لوحات ورسومات المعرض الذي ضمّ جلّ نتاجه الفني الموجه للأطفال، وخاصة ما خطته أنامله من رسوم لمجلة “أسامة” والكتب المدرسية الموجهة للمرحلة الابتدائية وشكر الفنانين الذين شاركوا في مجموعة من لوحاتهم تحية له.

فنان عبقريّ
بيّن الفنان موفق مخول أن البحرة فنان مبدع يستحق التكريم وأن تكريمه من خلال ندوة ومعرض لا يتناسب واسمه الكبير، ليكون التكريم الحقيقي له في كمّ الحبّ الذي تكنّه أجيال متعاقبة لفنان شكّل عبر مسيرته حالة فريدة في ساحتنا الفنية، وكان أكثر فنان له تأثير بصريّ على أجيالنا والمجتمع، لأنه تواجد في بيوتنا فكانت رسوماته ولوحاته في كل بيت وكل مكان وليس في المتاحف، من خلال مناهج أطفالنا الدراسية، مؤكداً مخول أن البحرة هو من حبّب أطفالنا بمدارسهم ومناهجهم لذلك يُعدّ شخصية فريدة من نوعها، ومن الصعب أن يتكرر لأنه لم يكن موهوباً فقط بل كان عبقرياً في تعاطيه مع الأطفال، وفناناً غير عادي بحضوره التشكيلي البصري الذي اخترق به قلب كل واحد منا، ولم يخفِ مخول أنه في طفولته أُغرِم برسومات البحرة وعندما كبر وصار فناناً أغرم بها أكثر.. من هنا وجب تكريمه للحديث عن قدراته ورسالته الفنية وكيف أثر فينا بشكل كبير، مطالباً الجهات المعنية بأن يكون له متحف يضم لوحاته ورسوماته حتى يبقى في ذاكرة أجيالنا والأجيال القادمة.

بصمة واضحة
وأشارت الفنانة لجينة الأصيل إلى أن البحرة هو الذي شخّص الأدب بالرسوم فترك بصمة لن تُمحَى من أذهان أطفالنا الذين قرؤوا مجلة “أسامة” والكتب المدرسية، ونجح كما لم ينجح أيّ فنان آخر في مخاطبة الطفل لأنه كان عاشقاً لعمله وللطفل الذي تعامل معه بصدق وموهبة كبيرة وقدرة استثنائية على تشخيص أيّ نصّ بطريقة صحيحة وبشكل مفرح لأنه أدرك أن الطفل يحب الفرح والمرح، ولذلك اخترع شخصية شنتيري في مجلة “أسامة” التي أحبها الطفل كثيراً لطرافتها ومرحها، كما كان له الفضل في ولادة شخصية “أسامة” فطبع المجلة بطابعه على الرغم من وجود أسماء كبيرة وكثيرة عملت معه في المجلة، إلا أنه كان الوحيد الذي ترك بصمة واضحة فيها لأنها كانت حياته وتلخيصاً لشخصيته فكانت نبضه وجزءاً منه، أما لماذا نجح البحرة في مخاطبة الطفل دون غيره من الفنانين فالسبب برأي الأصيل أن بعض الفنانين الكبار انشغلوا بأشياء أخرى، في الوقت الذي استمر هو في مخاطبة الطفل عبر رسومات واقعية قريبة منه وتشبهه، إلى جانب موهبته وملَكته في مخاطبة الطفل وهي ملَكة ليس كل فنان يمتلكها.

الأب الروحي لـ “أسامة”
ولأن الفنان ممتاز البحرة هو الأب الروحي لمجلة “أسامة” و(شيخ الكار) في مجال رسوم الأطفال، وهو مبتكر شخصية أسامة أكد رئيس تحرير مجلة “أسامة” الشاعر قحطان بيرقدار أنه لا يمكن تصوّر مجلة “أسامة” دون ذكر اسم البحرة، والسير على خطاه كرسام استطاع بشكل غريب أن يخترق عوالم الطفل بصدقه وأعماله الواقعية، حين قدم شخصيات ليست مفترضة بل من واقعنا المحلي السوريّ، وقد خاطب من خلالها التفاصيل السورية بكلّ أبعادها، ولأنه كان صادقاً مع ذاته ومخاطبته للطفل انعكس ذلك على أعماله التي وصلت إلى الأطفال بسهولة، منوهاً بيرقدار إلى أن رسّامي “أسامة” اليوم يواصلون تأدية الرسالة العظيمة التي أسسها البحرة للطفل، لذلك لم تحِد مجلة “أسامة” عن (المدرسة الممتازية) بكل تفصيلاتها لإيمانها بها ولأهميتها، مبيناً أن تكريمه هو اقتداء به وتمثّل بأخلاقه وإبداعه، وقد كانت مجلة “أسامة” حريصة على رفد المعرض المقام على هامش ندوة التكريم بأعداد وأغلفة المجلة القديمة، والتي رُسِمَت من قبل البحرة وهي تُعرَض للمرة الأولى تحية من المجلة له ولإظهار الرسالة الهامة التي قدمها، بالإضافة إلى قيام فريق مجلة “أسامة” بأرشفة وحفظ تراث المجلة منذ عقودها الأولى من خلال حفظ أصول مواد الفنانين والكتّاب الأوائل للاستفادة منها والبناء عليها.

إبداع الكلمة والصورة
وأوضحت د.ملكة أبيض التي حرصت على حضور المعرض والندوة، العلاقة الوطيدة والإبداعية التي كانت تربط الشاعر سليمان العيسى بممتاز البحرة الفنان، مبينة أنهما عملا معاً لسنوات طويلة، وأحياناً في المطبوعات نفسها سواء في مجلة “أسامة” حين نشأتها عام 1969 أو في الكتب المدرسية حين كان العيسى مسؤولاً عنها، فالكتب التي كان يخرجها العيسى بالكلمة كان البحرة يخرجها بالرسوم، لذلك كانت المسيرة مشتركة واهتمامهما بالأطفال واحد، مؤكدة أن شباب اليوم الذين يدافعون عن الوطن هم أولادهما الذين تربوا على كلمات العيسى ورسومات البحرة، فكانا من جيل الرواد الذي نهض بمجلة “أسامة” والكتب المدرسية، وأسفت د.أبيض وهي التي تترجم قصص الأطفال واليافعين لأن كل كتاب للطفل يحصل على جائزة في الدول الأجنبية يكون للرسام فيها حصة كبيرة، وأحياناً قد تعود الجائزة له دون الكاتب تقديراً لما يقوم به، في حين أن حقّ الرسام عندنا مازال مهضوماً على هذا الصعيد، لذلك طالبت وزارة الثقافة بتكريم رسامي الأطفال لأن الرسم إبداع يوازي إبداع الكلمة.

وصل لملايين الأطفال
وما يميز البحرة ورسوماته برأي الناقد سعد القاسم أنه عرف كيف يتواصل مع الطفل فقدم شخصيات ببناء تشكيليّ عالي المستوى، نجح في مخاطبة الطفل الذي أخلص له البحرة فطغت أعماله الموجهة إليه على اللوحة التشكيلية الكبيرة التي يتقنها.. ولا يبالغ القاسم حين يؤكد أن مجلة “أسامة” إلى جانب الكتب المدرسية كانت الجسر الأساس ليصل البحرة إلى ملايين الأطفال، فظلّت رسوماته عالقة في أذهانهم وقد ساهمت في بناء ذائقتهم الفنية، فكان إلى جانب مجموعة أخرى من الفنانين الذين أسسوا لفن الطفل في سورية في ظل عدم توفر التقنيات الحالية الموجودة بين أيدي الرسامين الشباب، والبحرة من الجيل الذي اعتمد على مهاراته الشخصية، ومع هذا قدموا للطفل ما يرغب به ويشبع حاجاته، ومن هنا استطاعت “أسامة” أن يكون لها بفضله حضور غير عاديّ بالتأثير الذي كانت تحدثه عند أطفالنا الذين كانوا ينتظرون صدورها، ونجحت في أن تكون منافساً قوياً للكثير من المجلات العربية الأخرى بإمكانياتها المتواضعة.

تقمّص حياة الأطفال
ومن خلال معايشة الفنان نشأت الزعبي للبحرة خلال مسيرته الفنية بيّن أن الرسم كان شغف البحرة وعالم الطفولة هاجسه.. لم يكن فناناً عادياً بل استثنائياً، موضحاً أنه كان يشاهد البحرة حين ينفذ رسومه وهو يتقمص حياة الأطفال فجاءت رسوماته بسيطة وواضحة كبساطتهم ووضوحهم، مشيراً إلى أن تكريمه هو تكريم لكل فنان مبدع .
ولم يتوانَ الفنان والناقد أديب مخزوم الذي أدار الندوة التي شارك فيها كلّ من لجينة الأصيل-موفق مخول-قحطان بيرقدار عن القول بأن البحرة فنان عبقريّ لا يشبه أحداً ولم يتأثر بالتيارات الغربية، فقدم رسوماته التي تشبه أطفالنا بحيوية خطوطها وشفافية ألوانها.
أمينة عباس