“سنلتقي ذات مساء في يافا”.. الحب وجه آخر للوطن
“يقال إن الحب حكاية رواها جد لأحفاده قبل النوم ذات ليلة شتائية، ولما غلبهم البرد والنعاس وعدهم الجد بأن يكمل لهم ما تبقى من فصول الحكاية، ولكن للأسف توفي الجد قبل أن يكمل الحكاية فبقي الحب قصة لا يعرف نهايتها أحد” بهذه المقدمة بدأ الكاتبان عمر جمعة وعبير القتال روايتهما “سنلتقي ذات مساء في يافا” وما حدث مع بطلي الرواية “غسان وبحرية” يؤكد أن الحب يمثل حاملاً إنسانياً للحياة بكل وجوهها، فعندما يكون الحب وجها آخر للوطن نرى أنفسنا نحمل المدن في أعماقنا انتماء كما نحمل أسماءنا وهويتنا.. ذاكرتنا التي نعيشها نحمل معها جزءاً من ذاكرة المدن نسكنها وتسكننا، فهل يبقى الحب دليلنا في ليل غربتنا، يخفف وطأة الحزن ويعيد لأرواحنا لهفة الشوق والحنين.
“في مغارة الدم بدأت أولى الحكايات، قابيل يقتل أخيه هابيل لأجل أنثى ويحمل جثته أربعين عاماً، وعلى جسر العشاق في الضفة الأخرى تحيي أنثى روح كنعان وتبعث في أوردته الدفء لتكون الحكاية الثانية، حكاية الحياة”.ص 10
أن يكون الحب هو المعادل الموضوعي للوطن، أو هو الوطن الحامل لأوجاعنا وآمالنا وخيباتنا، فإنه بذلك يتجذر في وجداننا ليستيقظ عند أول غيمة تصادفه، وهذا ما يؤكد عليه الكاتبان عبر أحداث روايتهما التي يسرداها لنا على لسان بطلي الرواية “غسان” الشاب الفلسطيني الذي يغادر بلده فلسطين، لتكون دمشق وطنه الآخر الذي يرسم له تاريخاً جديداً عبر قصة حب يعيشها مع “بحرية” الفتاة السورية الحالمة التي تنجرف مع عواطفها ومشاعرها، وتبقى وفية لحبها متجاوزة أي عائق يقف في وجه هذا الحب الذي يمثل لها الحلم الأسمى في الحياة، فقد يضعنا القدر أمام خيارات لاذنب لنا بوجودها، فنحن خلقنا ووجدنا أنفسنا بأسماء وأديان لم نخترها، وأوطان كتبت تاريخنا دون أن يؤخذ رأينا بانتمائنا إليها.
“هنا ولد الحب واخضر العشق وفي جنبات هذه الأرض وعلى كتفي أنهارها وجداولها كتب العاشق المجهول أول سطر في سفر الحكاية.ص10
منارة الحب
هذا الحب الذي يملأ روحها لغسان يمثل بالنسبة لبحرية تاريخهما وتراثهما، وساحات وطن مرصوفة بدم شرايينهما.. وطن محفوظ في متاحف ذاكرتهما التواقة إلى أنامل سحرية ترسم أصالتها بنحت الوجع فنوناً من العطاء الصادق، فالحب هو المنارة والبوصلة التي تهدي إلى الحق.
“وعلى رمال الشاطئ الطويل كان يبكي طفلاً وطفلة رسما حزن عينيهما على سطح الماء.. هو آت من الجنوب وهي آتية من الشمال، وما بينهما مأوى لوجه اختار أن يكون البحر لحده، فأزهر البحر أيقونات مقدسة تطفو مع الأيام الأولى في كل ربيع ثم تتوارى، ومنارات مازالت السفن والبواخر الضائعة وقوارب الصيد تستهدي بنورها إذا ما خذلها أو خادعها الطريق”. ص13
في تقديمهما لفصل “حب بطعم الميرمية”: أن تموت مقتولاً بضربة عشق فلا حاجة لتشريح جثتك، لأن الناس سيرون ابتسامة رضا شاحبة ترتسم على وجهك في إغفاءته الأخيرة.
يقول غسان: “أسميك أيقونة الروح.. وأسمي قلبي ساقية الانتظار.. سيد الحزن أنا.. وأنت سيدة الفراشات.. اسميك الكنعانية الأولى واسمي دموعي.. بحر يافا.. طفل المخيم أنا
وأنت دروب العائدين.. اسميك.. كأسي الأخير.. واسمي رمادي.. اخضرار الأمنيات”.ص 65-66
بوصلة الحق
اجتمع العاشقان على قضية واحدة هي فلسطين بوصلة الحق الذي عمل الطغاة على إقصائها بإشعالهم الحروب على امتداد العالم العربي، لكن تنبوءاتهم بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون باءت بالفشل، فهاهما حفيدا كنعان وتقلا، غسان وبحرية يلتقيان من أقاصي الدنيا ويجتمعان على فكرة واحدة هي الاشتغال على الأدب الفلسطيني من خلال الشهيد الرمز غسان كنفاني، فـ “غسان” الشاب الفلسطيني يستحضر تاريخ بلد اشتاق إليه ويناجيه من خلال أطروحة ماجستير يعدها عن أدبه، و”بحرية” ابنة الشمال السوري تشتغل على ترجمة أعماله إلى اللغة الانكليزية، وتحديداً مجموعة “أرض البرتقال الحزين” التي تمثل احتفاء بالذاكرة الفلسطينية عبر مفردات تشبه عبق الجنة التي توقظ الموتى..، غسان كنفاني يؤكد التصاقه بذاكرته.. أي بأرضه.. لأن هذه الذاكرة هي بوابته للعودة الحتمية إلى الوطن.. ص85
ذاكرة التاريخ
بحرية مسكونة بذكريات التاريخ التي حدّثها عنها جدّها قاسم الذي تمشت في ذاكرته وهو يحدثها عن يافا أيام شبابه.. والتي تقول عنها بحرية: “جدي الذي حكى الجميع عن فقدانه لذاكرته، كنت أراه ممتلئاً بها.. ساعات طويلة كنت اقضيها في حجره وهو يقص لي عن يافا وبياراتها.. عن أزقتها التي حملني إليها.. آه ياجدي لقد كانت يافا ذاكرتك عندما هربت الذاكرة منك.. وها أنا أسكنها وتسكنني.. قاسم، الاسم الذي بدّل عمري فارتديت عمره دون أن أدري، عصرت من صوّان ذاكرته ترياق غدي.ص87″
طيف للحلم
وكان غسان وبحرية يدركان أن من لا يصغي لتعاليم أحلامه كمن يتجاهل الينابيع التي تغذي حياته الواعية، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون حلم، فكان الحلم رفيقهما الدائم، كانا يعيان ويدركان أنه يوجد بذرة إلهية في داخل كل إنسان لابد أن تتفتح وأن ينتبه إليها ويرعاها ويعطيها التربة المناسبة لها، لأنها تتفتح عن إمكانيات جميلة تخدم التطور الإنساني، ومن هنا قادهما الحلم إلى يافا، وكانت بحرية قد كتبت رسالة لغسان في ذكرى ميلاده الأول بعد الرحيل، وحملتها قرارها بلقائه، لكنها لم تكن تعلم أنها ستسبقه.. تقول له: (من يافا على بحر سورية إلى يافا غسان على بحر فلسطين.. اشتقت إليك ياحبيبي.. غداً أمد يدي لأصافح الهواء القادم حيث أنت وأعب منه رائحتك.. غداً انتظرني عند وادي الصراخ فانا قادمة لرؤيتك.ص260
وختمتها: لذلك قررت أن آتيك كما وعدتك.. سأسمّر بصري باتجاه أحلامنا.. أسافر متجاوزة هذه الأسلاك بعيني لألتقيك.. أنا أشتاقك جداً ياحبيبي فهلا أخذتني إليك”. ص266
على شاطئ يافا وقفت بحرية تبوح لزرقة بحرها: فتحت مكحلتها، هذا تراب دمشق معجون ببخور ياسمينها وبحر ساحلها أقدمه قربان شوق حملني إياه حبيبي غسان، غسان الذي رسمك لي بكلام لا ينطق به إلا العشاق، تجولت في دروبك الترابية، شممت من كفيه فوح برتقالك، ومن جبينه كنت ارشف زيت زيتونك.. كم أبحرت في موجك بين يديه.. وكم تمرغت ببخور صباحاتك على أنغام نوارسك.
تنثر بحرية محتوى المكحلة في بحر يافا.. “سيعود صغارك كما رحلوا.. على أقدامهم لايزال غبار ترابك ينبت شتلات ليمون، وفي عيونهم تتمشى حقول الزيتون وتتراقص أسماك بحرك”، لتملأها مجددا بحرز جديد من تراب يافا وتودعه الجرة ومن بائع عصير البرتقال تطلب كأساً يروي عطشها وتسكب القطرات المتبقية في جب المكحلة ثم تعب من رائحتها ما يملأ رئتيها نشوة.. رائحتك ياغسان ستؤنس وحشة أيامي، ولن تفارق المكحلة رقبتي.ص 275-276
لقد وظّف الكاتبان المكان توظيفاً هاماً نسجا من خلاله أحداث روايتهما، وأظهرا الرابط الروحي ما بين المكان والوطن، فيرويان على لسان بطليهما أهمية المكان ورسوخه في أعماق الروح فهو يشكل الذاكرة الحية للإنسان، ويصورا عشقهما لدمشق وارتباطهما بها والعلاقة التي تربط دمشق وفلسطين جغرافياً فأغلب المدن تتشابه في ملامحها وأمكنتها.
“سنلتقي ذات مساء في يافا” رواية تمثل الواقع بكل وجوهه، تحمل الكثير من الشجن والأسى الموشى بأطياف الحب الذي يمثل الوجه الآخر للوطن، بل هو الوطن ذاته نعيش فيه ويعيش فينا، والخيبات لاتلغي الحب، بل هو الذي يحفزنا على تحملها والبدء من جديد، فعندما نهرب من القتل إلى الحب نتجاوز هذه الخيبات بمساحة الأمل والتفاؤل التي تنقلنا إلى عالم من السعادة ننسجه بجميل أمانينا، وقد كان للأسلوب الرشيق المشغول بلغة شفافة وقوية ومتميزة ومعبرة دوره الكبير في رسم نهاية هذه الرواية التي تستحق أكثر من قراءة.
سلوى عباس