ثقافة

عندما يكون الخراب مادة أولية للفن

رائحة احتراق هي أول ما يطالع الداخل إلى صالة “الرواق” هناك حيث تستقبله رائحة الدمار الخارجة من فستان عرس -احترق نصفه السفلي بينما نصفه الآخر لازال سليما معافى- ربما كي لا ينسى لحظة من قرر زيارة المكان، ماهو الواقع اليومي بل اللحظي الذي يحيا به، لكن ثوب العرس المحترق -بما يرمز إليه من أحلام ومشاعر أنثوية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأمان، بحيث تتبدد إذا تبدد- وما فيه من إسقاطات على حال النساء السوريات عموما في زمن الحرب-، ماهو إلا بداية لعوالم أكثر حميمية وألفة، تتفتح رويدا رويدا وبرقة بالغة، بعد قسوة المشهد الافتتاحي، و لينفرج ضيق النفس من قسوة المشهد، على حيوات وكينونات دافئة وخصبة، حققتها أو حاكتها هذه المرة “التاء المبسوطة”، التي هي حسب “ديانا جبور””تمد يديها وكأنها تمدهما للضم وما فيه من مواساة ورغبة متقدة بالخلاص والانطلاق مرة أخرى إلى الحياة”، بعد أن قررت مجموعة من النساء السوريات أن يدلين بدلوهن في زمن الحرب الطويل هذا، وذلك في النشاط الثقافي الأول، الذي أقامته جمعية “تاء مبسوطة” النسوية، والذي هو عبارة عن معرض فني حمل اسما موحيا وبقوة عن طبيعته الضمنية “من حبر الحرب..سطر الفن”، وهو كما ذُكر سابقا أول نشاطات هذه الجمعية التي قررت أن تقدم رسالة جمالية وفنية وإنسانية في بداية عملها ،الذي سيتنوع حسب “جبور” مدير الجمعية، في قادم الأيام ليكون له علاقة بمختلف مناحي الحياة الثقافية في سورية، ولكن بروح نسوية فيها ما فيها من تليين لوحشية الحرب وخلق حياة موازية أمنة نسبيا.
“تاء مبسوطة” التي قررت نساءها برهافة حسهن، أن يكون نشاطها الثقافي الأول، بمثابة دعوة عامة للتفكير بنمط حياة تستطيع أن تكون محتملة وسط هذه القسوة، وللتفكير أيضا وبشكل مغاير، في التعامل مع مستجدات مناخات هذه القسوة ومع الكثير من مفردات الحياة اليومية الناتجة عنها ماديا ومعنويا، والتي صارت في العديد من تجلياتها الواقعية الحياتية، عبارة عن عبء ثقيل، ولكن بحس النساء وأسلوبهن الخاص في النظر ورؤية حزمة النهار “النائسة” في آخر النفق، حس عميق بالحسرة، وأسلوب راسخ في منح الحياة البديعة، للأماكن والأشياء التي صار لها توصيف بكونها “مخلفات الحرب” هذه المخلفات التي ستصبح بين يدي خمس فنانات سوريات خريجات كلية الفنون الجميلة” ضحى ضوا، مارينا شماس، كارولين نعمة، لوليانا رميح، ديما فياض” قطعا فنية مشغولة بعناية بالغة إن كان في فكرتها وفي طريقة تنفيذ هذه الفكرة، فالخيش الذي صار مفردة من مفردات الحرب، هو هنا ستارة لغرفة أحلام عالية، وحقائب يد نسائية تحمل آثار الحرب، لكنها تحاكي آخر صيحات الموضة في الإكسسوارات النسائية، مع لمسة خاصة من يد صبية سورية، جعلتها أجمل وأكثر عراقة، والدش المكسور سيصبح مصباح قراءة، والشوكة والسكين والملعقة، ستصبح أيقونات أنثوية معلقة كلوحات صغيرة على الجدران، وغيرها من التفاصيل التي من الصعب أن تخطر إلا في بال المرأة، لأنها في وعيها الذي هو فوق وعي الحرب، هي شيء آخر لبدء الحياة وولادتها بصورتها الأبهى من رحم الحرب والموت والقسوة.
“ضحى ضوا” الفنانة التشكيلية السورية، خريجة الفنون الجميلة، والمدرسة في برنامج إعادة تأهيل الأطفال المتأذين من الحرب، يروح عملها الذي شغفها، بين مصياف ودمشق، كمثل مكوك حائك ماهر،هي واحدة من النساجات البارعات الخمس، اللواتي صغن هذه الفرجة العملية واللطيفة، بأصابع رشيقة وروح شفافة، تحكي عن عملها الذي ساهمت به في المعرض، وعن الفكرة التي قررت بها ورفيقاتها تقديم ما لديهن وما يردن قوله: “المرأة تنظر إلى الأشياء لا كما ينظر إليها الرجال عادة الملتهون بالحروب، فهي تنظر بحسها الأنثوي والعاطفي، لترى من خلال نظرتها الأمومية روحا في ما يبدو أن لا روح له” قالت ضحى وتابعت “الفكرة بسيطة في جوهرها وعميقة في دلالتها، كيف نحول مخلفات الحروب بذكرياتها القاسية إلى ما يؤنس ويقدم أيضا الفائدة؟ هذا هو الهاجس الفني والإنساني الذي أردنا تحويله إلى واقع، وكما تنظرون كل ماهو موجود في المعرض كان منذ فترة قريبة بلا روح”.
تشكو ضحى ورفيقاتها من قلة الاهتمام الإعلامي بهذه الأشغال الأنثوية عموما، فهذه التجربة لكي تزدهر وتصبح واقعا عملانيا، تحتاج إلى أكثر من معرض هنا أو معرض هناك، بل هي بحاجة لأن تصبح منطق حياة وعمل أيضا، وهذا ما يجب أن نفكر في تحقيقه لكل امرأة عانت ما عانت من قسوة الحرب.
معرض “من حبر الحرب..سطر الفن” والذي يقوم على مبدأ تحصيل المواهب والطاقات واستثمار التحدي والتعاطي معه كفرصة بتحويل مخلفات الحرب إلى أعمال فنية ذات قيمة جمالية، وأحياناً لهدف استعمالي، هو في روحه عبارة عن نقطة لامعة وهامة ودافئة في قسوة شتاء دمشق هذه الأيام، والجدير بالذكر أن“تاء مبسوطة” جمعية غير ربحية تهدف إلى تمكين المرأة ودفعها إلى سوق العمل عبر تطوير ملكاتها الإبداعية وأدواتها الفنية والثقافية.

تمّام علي بركات