لطيفة الشابي ولعبة الانزياح عبر “طيور الهاربيز”
كما يؤسس “جان كوهن” مفهوم الشعرية على مبدأ الانزياح، تؤسس الأديبة “لطيفة الشابي مفهوم أسلوبها السردي/الشعري على مبدأ الفجوة- مسافة التوتر ونراه في جملة وافرة من التجليات: التضاد والإقحام ودرامية الحدث والمفاجأة والتغاير والتحدي والترميز والأسطرة ..
إنَّ التَّعدُّد الأسلوبي الذي توافر في أسلوب رواية “طيور الهاربيز” للأديبة لطيفة الشابي هو بعضٌ من التَّعدُّد الأسلوبي في نصها الشعري، ففي العنوان أسلوب الانزياح بالحذف، للخبث والمكر والشر والموت والتي كانت تمثلهم هذه الطيور, وهو عنوان يختزل النص السردي برمته، ويتعلق بالتعبير عن البنية العميقة للرواية ويدخل القارئ عالم الرواية التخييلي بأبعاده كلها، من خلال تقديم الخلفيّة العامة لهذا العالم المتناقض والخلفيّة الخاصّة بكل شخصية ليستطيع ربط الخيوط والأحداث التي ستُنسج فيما بعد، وهذا يعني أن العنوان عتبة أساسيّة من عتبات الرواية، تُمهِّد لما سيأتي بعدها وتفعل فعلها فيه، فضلاً عن أنها تُقدِّم للقارئ المسوغات التخيلية للحوادث اللاحقة في المجتمع الروائي وعندها ندرك: أن “طيور الهاربيز” بمثابة دليل له وجهان أحدهما دال والآخر مدلول.
دال من حيث أنها تتخذ عدة أسماء أو صفات تلخص هويتها، أما الشخصية الأساسية كمدلول فهي مجموع ما يقال عنها بواسطة جمل متفرقة في السرد أو بواسطة تصريحات الكاتبة وأقوالها وسلوكها.. و”تتحلق طيور الهاربيز حولها متعطشة للمعركة ومستبشرة شراً يليق بنذالتها، يرتقي إلى ألق فجور راعية فسادها.. تتفحص تقاسيم أتباعها، لتختبر مدى جاهزيتها للانقضاض، وتفتح الجلسة إيذاناً بانطلاق شرور أعمالها”. ص-72
في الرواية أسلوبان آخران، أسلوب الرَّاوية العارفة التي تنتقل بحرية في النَّص، لتنقل حركة الشّخصيّات، وتُعبّر عمّا تُفكّر فيه وتتمنّاه وتحسُّ به، ثم نراها تغادر أسلوب الرّاوية العارفة لتَحُلَّ في شخصية مبروك، فتصبح راوية وممثلة، راصدة حركته الخارجية وأفكاره ومشاعره، وتنقل حركتها وتعليقاتها على الحوادث المحيطة بها، وهكذا يبدو التَّعدُّد الأسلوبي في رواية “طيور الهاربيز” متنوِّع الاتجاهات، دالاً على طبيعة الأسلوب في هذه الروايةِ.
وإنْ سعت الكاتبة إلى التخفّي ضمن الحكاية الفرعيّة، داخل طوايا الأحداث والشخصيّات فقد طفا وُجُودها على سطح الحكاية الإطاريّة بالأنا الساردة الحالِمة، تُعلن بداية روايتها بما يُشبه الشعر. وتنطلق عبر الفضاء الجغرافي انطلاقاً ليس منقطعاً عن دلالاته الحضارية والاجتماعية، أي أنه ليس مجرد مكان، بل حيويته تتجلى من خلال حركة الشخصيات والعلاقة المرتبطة بزمن معين. “تدور أحداث هذه الرواية، على نفسها، زمانها، عصر حجري، ومكانها متكلس. دق وتد خيبته قبالة خيمة آمالها التي أخوت، قبل أن تطرح فاكهة الأسئلة المعلقة.”ص- 11
حينما يبدأ الموجز الأول في التشكُّل تنتقل من سرد الحالات إلى سرد الأحداث، كأن تتحوّل أنا – الكاتبة المتماهية وأنا – الساردة إلى حضور غير ملتبس، حسب لعبة الأداء السرديّ الروائيّ، إلى أنا – الساردة تتوسّل بالذاكرة والمِخيال وتدفع الرؤية إلى الخارج، إلى افتراض السطوح المرئيّة، بتشغيل العين الساردة الشبيهة بالكاميرا تتعقّب التفاصيل في عرض الحركات والأشياء: “يظل صاحبنا ينهل ممّا أوتي من معرفة ما تقتضيه المهنة، أو بالأحرى المهمة المأجورة لاهثاً ككلب الحراسة، مدفوعا من قبل المستبد، من أجل الدفاع عن مصالحه الخاصة، فيكون بذلك المقصود بقول نزار: إذا أصبح المفكر بوقاً/يستوي الفكر عنده والحذاء”. ص-36
كأنّنا بهذا الرصد العينيّ نتعقّب مشاهد حركيّة ضمن سياق مكانيّ وزمانيّ واحد، تسند إلى شخصيّة واحدة أيضا: “لاهثاً.. مدفوعاً من قبل المستبد…”.
إنّ اشتغال الوصف السرديّ بَدْءاً على الحركة والسكون والمزاوجة والمراوحة بينهما يفتح الحكاية الفرعيّة تبعاً للخطّة المُضْمَرَة داخل الحكاية الإطاريّة على ثنائيّة رمزيّة مفادها التقريبيّ الإظهار والإضمار في أداء الشخصيّة بِفِعل السرد الّذي هو إثبات ونفي في ذات الحين، فمن خلال التصعيد الدرامي للأحداث تفسح المجال أمام الإيديولوجيات وأنماط الوعي المختلفة لتتصارع وتعبر عن نفسها، وتترك للقارئ حرية الحكم إن وجد:
“والظاهر أن من التلاقيح والأمصال، ما يصلح على ما يبدو، لدفع الإحساس بالذنب وتأنيب الضمير، وليهذي أفلاطون كيفما شاء: “بأن قمة الأدب أن يستحي الإنسان من نفسه”. ص-36
اعتمدت الكاتبة البناء اللغوي لروايتها اعتماداً واضحاً على نوعين من الصور، نوع سردي مستعيرة عصا الفلاسفة وآخر وصفي، أما النوع السردي الفلسفي فغزير جداً، ينافس السرد المباشر للأحداث، ويكاد يفوقه عدداً وجمالاً. ففي هذه الرواية نرى أن الشخصيات الرئيسة كالراوية ومبروك وأمه، تبرز كلها راغبة في الخروج من أسر المرحلة التي أحرقت كل القيم النبيلة إلى رحاب مرحلة جديدة. يريدون الخروج من هول الظلم والاستبداد والعودة لتحكيم العقل والوقوف بثبات وشموخ والخروج من الفقر والعوز إلى الغنى وتحمّل شظف العيش.
لقد بُنيت الصور الوصفية والسردية من الألفاظ والتراكيب بشكلَيْها الحقيقي والمجازي وعملت الكاتبة على تعرية الواقع العربي والإنساني على سبيل التنويع الأسلوبي الذي يستحضر الماضي البهيج في الحاضر التَّعِس، ويُبْعد الحاضر التَّعِس بدفعه إلى الماضي، في نوع من الانقلاب الدلالي لزمني الفعلين الماضي والمضارع فتنحل العقدة الهيكلية الناظمة السرد، وعوامل الإقفال و”الإحساس بالنهاية” لصالح النهايات المفتوحة.. والخروج من الجهل إلى العلم، والخروج من عصر يمتهن كرامتها ولا يراعي مشاعرها إلى رحاب أوسع تُحترم فيها الإنسانية والمشاعر.
يسهل القول: إن رواية “طيور الهاربيز” متعددة الأصوات، تعكس حقيقة أو وهماً وتمثلها واقعاً أو حلماً، وجسد الأسلوب ما يحس به الإنسان من نوازع الخير والشر، نوازع المتعة والعفة، نوازع السمو والدنو، فجاء الأسلوب معبّراً عن هذه النوازع بكل ما تحمله هذه النوازع من دفء ونزق، وهدوء وصراع، واستطاعت الكاتبة أن تصور بصدق وأن توصل معاً كل ما كابده وعانه المجتمع إزاء هذه النوازع في تمزقات الروح وجراحات الجسد عبر روايتها هذه.
أحلام غانم