ثقافة

“راوي مراكش”.. رواية تناغم ما بين الواقع والأسطورة

في ساحة جامع” الفنا” في مراكش، حيث المكان يعج بالغادين والرائحين؛ جموع كثيرة تمر عفواً أو قاصدة الساحة الكبيرة؛ هناك يختفي زوجان غريبان عن المدينة، هي سيدة من أقصى الغرب “فرنسية أمريكية” وهو رجل من شرقه البعيد؛ من الهند، يختفي الاثنان فلا يعلم أحد شيئاً عن حقيقة الحدث الغريب المريب، كان الرجل والسيدة ملفتان بالقدر ذاته؛ إنما في اتجاه مختلف لكل منهما، هو بغرابته وسلوكه الغامض وهي بجمالها الملفت الفتان.
هذا الغياب هو محور الرواية التي استوحاها الكاتب الهندي “جوي ديب روي” بعد زيارة قام بها إلى المغرب العربي، الرواية التي اتخذت من ساحة الجامع الشهير مسرحاً لها، حيث يأخذ حسان دور راوي الحكاية أو بالأحرى الحكايات، فيعيدنا بأسلوبه إلى أجواء ألف ليلة وليلة حيث الحكايات تتوالد من حادثة  صغيرة تأخذ بتلابيب الحاضر وتتركه معلقاً بانتظار الحدث التالي، في المكان الذي يمتلئ بأناس من كل الانتماءات والمشارب، حيث يمكن لعرافة مثل “خديجة” أن تجد مكاناً تنزوي فيه وتقرأ الطالع لمنتظر قلق. مغنون وعازفو آلات موسيقية، قرويات وباعة جوالون، تجار ومحتالون، وحتى مروضي حيوانات وأفاعٍ، كل أولئك يمكن لهم أن يجدوا ملاذاً لهم في الساحة ويمكن لهم أن يكونوا من جموع تستمع إلى قصص حسان فرادى وجماعات، يتقاسمون معه ذكريات مروا بها في المكان، فهنا مرت فتاة جميلة ترتدي زيها المغربي الجميل، ومن هنا شدّنا عطر سيدة غربية المظهر، كانت مسرعة خلف شيء ما، لكن الجميع يتفق على شيء واحد هو أنه في الليلة التي اختفى فيها الزوجان، كان للقمر لون أحمر مثير للريبة والوجل، وأنوار حمراء خطّت في السماء فوق المكان.
“في أيامنا هذه أستلقي على بساطي المنسوج في الناحية الأخرى من الساحة، بجانب أكشاك الحمضيات ذات الأضواء الساطعة القريبة من مركز الشرطة، فهذا الموقع يتيح لي أن أروي قصصي في سكينة وأمان” هذا ما جال في رأس حسان ص20.
لم يكن حسان سوى شقيق مصطفى الرجل الغامض الذي يقبع خلف قضبان السجن بشبهة تورطه في الجريمة الغريبة، وهنا يبدأ من يعلم بالأمر، يشكك بعفوية الراوي في إطلاق حكاياته، التي يبغي منها إظهار براءة شقيقه، يصنع أساطيره؛ يضيف إليها من بهاراته الهندية يزاوج مابين ثقافته وتقاليد أصحاب الأرض؛ ليجعل من الجريمة نوعاً من ضروب الخيال.
“اجعل من قصتي أسطورة يا حسان، فأنت وحدك تستطيع ذلك” يناشده مصطفى من خلف الأسوار.
كيف لا ومراكش مدينة عرفت على مر السنين؛ مدينة السحر والحكايات الغريبة، فكانت الوحي للعديد من المؤلفات والروايات التاريخية والأدبية، حيث يمكن لأي جائل في المدينة أن يروي القليل من تفاصيل يومياته، لتصبح في لحظة ما وعلى لسان حسان أسطورة تطرز حوافها بعضاً من يوميات إنسان عادي.
بينما يقول له واحد من مستمعيه الذي عرف صلته بمصطفى:”إنك تحيك أسطورة حول جريمة، وإني آسف لكوني شديد الفظاظة، لكنها تبدو لي هكذا؛ لأنك تواجه الحقيقة الرهيبة للإثم الذي ارتكبه أخوك؛ لحياكة نسيج بينك وبين الواقع الأليم”.
أحداث الرواية والتفاصيل التي يستفيض بذكرها كاتب الرواية على لسان حسان الراوي تضع القارئ أمام تحدٍ كبير كي يتمكن من الصمود وحماية نفسه من الضياع ما بين الأمكنة الغريبة وغموض الأحداث، وقصص الحب الرومانسية، عدا عن الخوف والريبة التي ترافقه من صحراء مترامية الأطراف، رمالها قادرة على التهام قوافل من الحيوانات والبشر فكيف ببعضٍ من الأشخاص.
جوي ديب روي كاتب هندي اعتاد استعارة أمكنة وثقافات مختلفة مسرحاً ومحوراً لأحداث رواياته، حيث جعل أنتيغون يجول في قندهار، بينما جعل من المدن الإيرانية خلفية لروايته الثانية “ملاك الضوء” عندما أراد الحديث عن التصوف وجماليات الخط الفارسي، لتغدو مراكش هنا هي المسرح والوحي، بعد زيارته إلى المغرب، حيث انغمس في طبيعتها الجميلة، وتعمق في عادات أهلها وطبيعة العلاقات بينهم، القيم والعادات التي تحكمها، وتنوع الانتماءات واللهجات تبعاً للأمكنة التي يتحدّر منها القادمون والوافدون إليها، ومحاولته الإحاطة بتاريخ المنطقة وجغرافيتها، من خلال حادثة الاختفاء التي ابتعد عن وصفها بدقة شديدة مقابل ربط القارئ وأولئك المارين في المكان والمقيمين فيه، بخيط رفيع من التشويق والغموض للبقاء انتظاراً لحل اللغز الكامن في الحكاية .
الرواية نالت العديد من التنويهات والتقدير خاصة أنها تتيح لخيال القارئ استعادة أجواء “ألف ليلة وليلة” في مكان مختلف وبلسان وثقافة أخرى، لكنها بالمقابل تعرضت للكثير من النقد الذي أتى على خلفية الترجمة التي قام بها علي عبد الأمير صالح من سلسلة إبداعات عالمية، والتي اتهمت بعدم الأمانة على الأمكنة والتسميات فأتت الأسماء غريبة غير مطابقة مع الحقيقي منها، وغيرت من أسماء المأكولات والأدوات والمناطق وحتى آلات العزف التي وردت تعرضت للتحريف، في تأكيد من النقاد والقراء على أن للترجمة دورها الأساسي في توثيق وتأكيد انتماء العمل الأدبي، فأتت “راوي مراكش” وكأنها استعارت الاسم فقط بينما تذهب بك لغة الرواية “المترجمة” إلى مكان مختلف تماماً.

بشرى الحكيم