ثقافة

جمال يبتعد.. وألوان تسيح في الدموع قامة فنية كبيرة

الشاعر قحطان بيرقدار رئيس تحرير مجلة أسامة قال: بعد شهر من تكريمه في مركز ثقافي أبي رمانة آثر الفنان ممتاز البحرة الرحيل، وبرحيله خسرت سورية قامة فنية كبيرة، وخسرته مجلة “أسامة” كرفيق درب لها وهي التي لا يمكن أن تُذكَر إلا ويُذكَر اسمه، وهو الذي ارتبط بها ولاسيما من خلال شخصية أسامة التي جسدها ببراعة كبيرة بعد أن كتبها الأديب عادل أبو شنب، وقد تربت أجيال على هذه الشخصية على مدار خمسين عاماً.. من المحزن أن يرحل بعد تكريمه، ومن المحزن أنه آثر الرحيل ومجلة “أسامة” تدخل الشهر القادم عامها الـ 48 وهو الأب الروحي لها.. لن يترك ممتاز البحرة أسامة يتيماً لأن المجلة مصرّة على إكمال الرحلة التي بدأها، وستبقى مدرسته الفنية التي كرّسها منارةً للرسامين الجدد.

الذاكرة البهيجة

وتحدث بيان الصفدي رئيس تحرير مجلة أسامة سابقا: برحيل معلمنا وصديقنا ممتاز البحرة تكون ثقافة الطفل قد خسرت واحداً من أعمدتها الأولى، أحد مؤسسي مجلة “أسامة” ورسام السيناريو الذي لا يُضاهى، ورسام الكتب المدرسية السورية يوم كانت هذه الكتب تهتم بالفن حقاً، وأحد صنَّاع الذاكرة البهيجة لطفولة الملايين التي لم تنسَه ولن تنساه.. ممتاز البحرة رسام كبير، وملوِّن ساحر، ورسام أطفال رائد ومتفرد، ورسام كاريكاتير، ومثقف نبيل، وصديق شهم، ووطني مكافح وغيور، وإنساني مليء بالحب والعطاء.. شرَّفني أن عاد للرسم في مجلة “أسامة” يوم تسلمتُ رئاسة تحريرها، وتعززت صداقتنا في العمل وخارجه، وجلساتنا نحن الثلاثي (ممتاز وغسان السباعي وأنا) في قلب دمشق جزء من الألوان الشفيفة التي صبغت قلبي إلى الآن.. لقد سمحا للطفل الذي صنعاه ذات يوم أن يكون على مائدتهما المتواضعة والثرية.. الجميلون يبتعدون وألوانهم تسيح في الدموع وتتبعثر في الدخان.

اسم من ذهب

وتروي ريم محمود رئيسة تحرير مجلة “أسامة” سابقاً انطباعها عنه: ممتاز البحرة الإنسان الراقي النبيل، عاش كريماً ورحل كريماً، رحل بعد أن شهد محبة من تربى على رسوماته وألوانه.. نعم، شهدتُ تلك الفرحة التي ارتسمت على وجهه يوم أتيتُ مع الصغار لتكريمه، ويومها انفتح قلبه على محبة الناس، وأتى تكريمه الأخير ليشهد بعينيه أن من يقدم من قلبه ذكراه حاضرة حتى وإن غاب عن الإعلام والأنظار، فالعمل الأصيل لا يموت، والإنسان الأصيل يبقى.. هذا ما علمني إياه ممتاز الصديق.. وأعود بذاكرتي لأول لقاء كان بيننا، وأتذكر جيداً عندما طلبتُ مقابلته بصفتي صحفية، ويومها بكل احترام رفض فقررتُ زيارته كشخص تربى على رسوماته لأشكره، وعندها رحب بالزيارة، وعند اللقاء اكتشفتُ فيه هذا الإنسان المتواضع المحب، العميق  بفكره ووجدانه.. وتوالت اللقاءات، وكانت رسالتي الصغيرة أن أعيد الفرح لقلب هذا الشخص المحب الذي قاسى بسبب الإهمال بعد عطاء تجاوز الأربعين عاماً قضاها بين رسم الكاريكاتير الهادف الاجتماعي والسياسي، ليخرج منه ومن فوضى هذا العالم الكاذب ويدخل عالم الأطفال الذي كان مؤمنا ومحباً له، فعقول أبنائنا تستحق الأجمل والأفضل كما كان يقول لي، وكان بحق الفنان العربي الأول الذي استطاع تصوير ملامح تشبهنا، مبتكراً مدرسة رسومية خاصة به، وكان هو وما أبدعه مدرسة للأجيال التي تلته من خلال رسوماته في الكتب المدرسية وما أبدعه وصوّره في مجلة “أسامة” ضمن مسيرة امتدت أكثر من 30 عاماً في هذا المجال.. ممتاز البحرة اسم من ذهب.. نعم، رحل ولم يرحل، فهذا الإرث الكبير وهذا العطاء باق.

طفل في الذاكرة

الفنان أحمد المفتي: رحم الله الفنان الدمشقي الكبير ابن حي مئذنة الشحم حيّ نزار قباني أيضاً، رحم الله الفنان التسجيلي، فنان الكتب المدرسية وصاحب الريشة المتميزة الذي انطبع اسمه في ذاكرة الأجيال.. لقد افتقدنا بفقده واحداً من أهم أساطين الفن التسجيلي التوضيحي، ورحم الله المعري الذي قال: سر إن استطعت في الهواء رويداً/ لا اختيالاً على رفات العباد/ رب لحد قد صار لحداً/ مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد.. رحمه الله لتبقى رسومه في الكتب وفي المجلات، وأخص بالذكر مجلة “أسامة” كي يبقى طفلاً في الذاكرة بالرغم من مقاربته الثمانين.. رحمك الله أيها المبدع.

معلّمي وملهمي

رامز حاج حسين المشرف الفني لمجلة “أسامة”: وعت ألواني وخطوطي في هذا الدرب على تقليد رسومه وخطوطه وألوانه، وكان حلمي الأول أن ألتقيه وأن أعمل في مجلة “أسامة” لكي أتلقى النصائح منه ومن رفاق دربه لأطول فترات ممكنة، وكانت الفرحة الكبرى أن القدر استجاب لأحلامي وبتُّ في كنف “أسامة” ومن المتصلين به بشكل مباشر، حتى كُتِب لي أن أكون المشرف الفني مع فريق “أسامة” الشبابي وكانت الزيارات المتكررة لمقر إقامته في دار السعادة للمسنين مع الآنسة ريم محمود رئيسة تحرير المجلة سابقاً والجلوس معه لفترات طويلة، نستقي من ألقه وعطر كلماته، وكم أدهشتنا تلك الذاكرة الحديدية الحية لأدق تفاصيل رحلته مع “أسامة” وكم سعدنا وأطفال مبادرتنا سنابل الأمل وهو يتلقف قصصهم ورسومهم بعينيه وروحه وقلبه، ويسدي لهم النصيحة ونحن نشرب من كلماته.. السيد الجليل للّون. شيخ الكار لفن القصة الطفلية السورية، معلمي وملهمي وداعاً.

أيقونة زاخرة

رائد خليل رسام الكاريكاتير قال:
أنا الطاعن بصمت الحبر..
أتخيّل آخر الانحناء..
همزة أم همسة.. الأمر سيان..
هو خروج العلقم من جفاف المناداة..
والسبحة المكورة
تموء من وجع يدي
كسيزيف العناء…
أنا الطاعن بصمت الحبر..!
الذاكرة لن ترحل بالتأكيد، والصورة حفرت في أروقة التاريخ الفني أيقونة زاخرة بكل ألوان الطيف الممزوجة بروح الطفولة.. هذا المنهل المعطاء ترك فينا باسم ورباب والكثير من الشخصيات.. ترك لوحة ميسلون شاهدة على العطاء.. صحيح أن الأماني كثيرة، وصحيح أنها لم تتحقق وهو القائل: “ليس لدي شعور بالمرارة فقط، لدي بعض الأماني أتمنى أن تتحقق”.. اعذرنا فناننا ممتاز، تأخرنا عليك بالتكريم، إذ كنا نحضّر لك مفاجأة تستحقها.. كنا نجهز لأكبر احتفال عالمي بك، ولكن يد القدر قطفت من بستان الشام واحدة من أجمل الورود.. أمانيك سنحققها ولن نترك باسم ورباب في أي ملجأ قادم، فالسعادة بتخليد ذكراك ونشر رسومك وألوانك على مساحة النبض والوطن.. وختاماً: في الكف.. خطوط حياةٍ وموتٍ وألمْ.. وأصابعي لم تنكر يوماً طعمَ حبركِ والقلمْ..!

قيمة فنية عظيمة

الفنان والناقد التشكيلي أديب مخزوم: كنتُ على معرفة مسبقة بتدهور حالته الصحية ودخوله مشفى الرازي في دمشق منذ أسبوع، وكنتُ على تواصل يومي مع إدارة المشفى للاطمئنان على أحواله الصحية، ولم أرغب بإزعاج جمهوره بخبر مرضه الأخير، إلى أن تلقيت فجأة الخبر المحزن والمؤلم من إدارة دار السعادة.. وكان لي شرف المشاركة في تكريمه في مركز ثقافي أبي رمانة بمعرض وندوة في الشهر الأخير من العام المنصرم، والتي شكلت تظاهرة وطنية بامتياز لأن رسوماته الطفولية هدفت ومنذ البداية إلى توجيه الصغار واليافعين نحو مشاعر التعلق بالوطن والدفاع عن قيم الخير والحق والعدالة، والبحث عن مصادر المعرفة والجمال والإبداع وساهمت في تدعيم تيار الثقافة الإنسانية الطفولية في جوانبها الحضارية والمحلية على مدى أكثر من نصف قرن، وتكريمه الفعلي يجب أن يتم من قبل وزارة التربية باحتفالية كبرى تشمل كل مدارس سورية، وتستمر على مدى شهر على الأقل لأنه كرس أهم سنوات عمره لإغناء الكتب المدرسية الرسمية بأروع الرسومات الموجهة للأطفال، ولأنه فنان عبقري وفذ ولا يتكرر، وأحد كبار الفنانين في هذا العصر.. لقد كتبتُ مرات عديدة أقول إن أمة بلا عباقرة أفضل ألف مرة من أمة لا تكترث لعباقرتها ومبدعيها، وكان هذا الشعور يزداد كلما تقدم العمر بفناننا العظيم ممتاز البحرة، وكلما وجدتُه بعيداً عن دائرة الضوء والاهتمام الإعلامي.. إن الأجيال القادمة ستقول عنه أكثر مما قلنا لأنها ستكون أكثر تحضراً وإنسانية وثقافة من جيلنا، وحينها سيقيَّم ممتاز البحرة كقيمة فنية عظيمة، وهذا ما نستشفه في سحر خطوطه وليونتها وحيويتها، المفتوحة في كل الاتجاهات على عوالم الدهشة والسحر في مشاهد الطبيعة والأطفال وأشكال الطيور والفراشات وطائرات الورق والدمى واللعب المنسية التي تثير مشاعر وأحاسيس الصغار والكبار معاً.. ومن الناحية الفنية حققت رسوماته حضورها الذاتي والخاص على الصعيدين التكويني والتلويني، وتميزت بأنها خاصة به وحده، فهي شديدة الالتصاق بشخصيته وذاته، ولم يكن بحاجة لأن يحمِّل لوحاته تأثيرات وافدة.. كان دائماً يمتلك القدرة على الإبداع بصدق عظيم ونادر.. والذين يعرفون حيوية وتنوع الحركات والمشاهد التي برزت في رسوماته يدركون جيداً أنه الأكثر قدرة على تجسيد العناصر والأشكال بحيوية وموهبة فذة لا تتكرر، حيث نجد الأطفال والعناصر المختلفة تتحرك في رسوماته بخفة الفراشات والهواء.. كما يجب أن تُجمَع رسوماته الأصلية من أرشيف مجلة “أسامة” وغيرها في متحف خاص، إضافة لإصدار كتاب بطباعة أنيقة وفاخرة تُجمَع فيه روائع رسوماته التي نشأ على سحرها ملايين التلاميذ، وهذا الكتاب سيكون ثروة للأجيال الحالية والمستقبلية.
أمينة عباس