ثقافة

حين تتفوق” الريشة” على النصوص

لا أحد يعلم إلى أين رحل باسم بقميصه الأصفر، أو أين هي رباب بثوبها الأحمر المطبوع في ذاكرتنا الطفولية حتى اليوم، الذي أعلمه أن أباً حقيقياً ومحباً لهم جميعاً قد غادرنا وغادرهم جميعاً بكبرٍ وهدوء يليق بالمبدعين الكبار، ووقعٍ مؤثر لا يتركه إلاّهم، غادر إلى ما بعد خط الأفق حيث موطن النور الدائم، تاركاً لنا الذكريات والقصص وساعات من اللهو البريء تملأ القلوب، تشاركنا فيها اللعب مع هؤلاء صغاراً منهم ومعهم تعلمنا أكثر مما رجونا، من أصول اللياقة والتعامل، إلى حب العلم والمعرفة، وقعنا في غرام الوطن، ومعاً اكتشفنا تضاريسه وعشقنا كل حبة تراب فيه، ومعهم أيضاً تلمست أصابعنا وأطبقت على السارية ترفع راية البلاد إلى العلا.
بريشتك الناعمة الرشيقة، أيها الفنان القدير فتحت أبواب البيوت على امتداد تراب الشام والأردن وبعضاً من بيوتات فلسطين، لأصحاب تشاركنا معهم قيماً وعادات وتعاليم، قصصاً وحكايات ومغامرات خضناها سوية، ستبقى في الذاكرة تسترجعها كلما لمحت العين حقيبة مدرسية على كتف طفل صغير، وكلما مرت بالبال حكاية طفولية تبحث عن شخوصها.
ممتاز البحرة صاحب الريشة التي توأمت مابين الكلمة والصورة لتزداد بها الحكايات حياة وتغتني بالمعاني؛ تفتح للصغار الآفاق على المدى الواسع.
عبر الرسم الصحفي والكاريكاتير السياسي في جريدة الصرخة السورية، ومجلة الجندي، دخل عالم الفن والتشكيل في العام 1955 ليصبح بعدها عراباً لرسوم المناهج التعليمية والكتب المدرسية، هو واحد من رواد الجيل الثاني في الحركة التشكيلية السورية، حيث امتلكت تجربته مكانتها الخاصة والفريدة؛ التي تنحاز كلياً إلى الفن المفهوم من قبل الناس جميعاً دون الدخول في دوامة التأويل والتفسير؛ في واحد من لقاءاته الصحفية القليلة يهمس لمحاورته بالقول: “أحد التجريديين قال لي أن التجريديين أنفسهم لا يفهمون مايرسمون” حيث اختار الذهاب إلى أقصى التبسيط  في صورة تفوقت على الكثير من النصوص، لتتماشى خطوطه الواضحة المتلونة مع قوة وشدة اللون حيناً وضعفه حيناً آخر، بحيث أتت ملبية الاحتياجات الذهنية التي يمتلكها عقل طفل صغير أطلقته يد الأهل لاكتشاف العالم الجديد من حوله.
هل اقتصرت رسومه على الكتب المدرسية، هي بالطبع تعدتها بالإضافة إلى آلاف اللوحات الزيتية والدراسات الورقية والرسوم المرافقة للنصوص، تعدتها إلى المجلات التي توجهت إلى الصغار، لتكون مجلة أسامة؛ التي كان من مؤسسيها؛ والتي كان أهم ما فيها أنها بعيدة كل البعد عن تأثيرات الفن الغربي بشكل عام؛ وهو الجانب الذي دفع البحرة للعمل فيها بكل الحماس والإخلاص الذي تواصل عبر العديد من السنوات؛ لتشكل الأهم من بين المطبوعات التي عمل فيها، إذ وبالرغم من توالي العديد من الفنانين المعروفين وممتهني الرسم للأطفال؛ تبقى للبحرة بصمته الفريدة والمميزة التي صبغت صفحاتها، والتي جعلت منها تجربة تحظى بالكثير من التقدير، على صفحاتها عرفنا فتوحات زنوبيا ملكة تدمر، عبد القادر الحسيني وبطولات الفدائيين الذين قارعوا الاحتلال في فلسطين، قصص الخلفاء والعبر، زرنا مغارة جعيتا العجيبة، وغوطة دمشق، حتى أن عربة بائع الفول على بوابة المدرسة ما تزال تعبر الخيال، أناشيد في الأذن؛ قصص وحكايات تاريخ مجيد في القلب، وصور لا تبارح ذاكرة الطفولة الأولى.
“الشر كما الدمامل التي لابد أن تأخذ حدها؛ ثم تفقأ وتنتهي، والصراع لا بد سينجلي عن انتصار الحياة بكافة المجالات، الأمر يحتاج إلى جلد وصبر وصمود” هي كلمات له في أواخر سنواته؛ رسالة له دون ضجيج لكنها لا تحتمل التأويل كما  فنه، هو فنان جسد حالة إنسانية وفنية ووطنية سورية نقية، وهذا الشر حالة لا بد سينتهي إلى انتصار للحياة، لأننا نستحقها هذه الحياة.

بشرى الحكيم