ثقافة

أقـسـم أنـَّه كـــان حـبـــّاً

صباح جديد
«لا تنحنِ أيُّها الرأس/ من النكبات والحظّ العاثر
إنَّ صباحاً جديداً ينذر بالشروق
سيغسل كلَّ شيء حتَّى النقاء/ ويعيد ترتيب الأمور من جديد
فتنسحب الوحدة ويعود الحبُّ..» ص 8
قصائد مختارة من ديوان الشاعر الروسيِّ بولات أكودجافا، تزخر بتفصيلات حياتيّة عاديَّة، لكنَّها ذات دلالات عميقة، تعبِّر عن المشاعر الإنسانيّة الفياضة نحو المرأة والوطن، استقاها من عمق تجاربه في الحبِّ والحرب، وبسبب من غنى حياته الشخصيَّة:
مواليد  موسكو ـ أيار 1924، حصل على الإجازة في الآداب من جامعة تبليسي عام 1950، ليعمل مدرِّساً للُّغة الروسيَّة وآدابها، ثمَّ مديراً لقسم الشعر في الصحيفة الأدبيَّة، ورئيساً لدار نشر “مولودايا كفاردايا” الحرس الفتيّ.
في طفولته كتب الشعر، ولأنَّه كان مؤلِّفاً موسيقيَّاً، وذا صوت جميل، فقد لحَّن، ومنذ شبابه المبكر، الكثير من قصائده، وغنَّاها عازفاً على آلة الغيتار. وقد أقيم له تمثال في شارع أربات، وهو شارع قديم  في موسكو يسكنه الفنَّانون، والموسيقيُّون، وما شابه. وحقيقةً شيء يثلج الصدر أن يقع بين يديك ديوان شعر، فتطالعه في استمتاع وشغف بلا توقُّف حتَّى الكلمة الأخيرة.

الوطن أوَّلاً
“وأخيراً ظهر في البيت!
حيث حلمتْ مئة عام أن تراه فيه
وإلى حيث ظلَّ مئة عام يستعجل القدوم..” ص83
إنَّه الحبُّ إذاً باقٍ في قلب الحبيبة المنتظرة مهما طال زمن البعاد، واتسعت مفازات الشوق الجارحة خلال فترة الانتظار الطويل، وهو مثلها كان يستعجل هذا القدوم ليظهر في بيته، هذا الظهور المختلف عن الحضور العاديِّ، فكأنَّه فجأة يُشاهَد على غير توقع!.
لكن يأتي مطر متأخِّر، يمنع الحبيب من الاستقرار في بيته بعد سنوات الغياب المديدة لأنَّ أمراً مهمَّاً، فيه الخير ومواسم البركة الَّتي تأخرت كما تأخَّر المطر الَّذي يقرع على زجاج النافذة الآن، يدعوه لتحقيق النصر لوطنه، فظلَّت صامتة حتَّى استدار يغادر إلى جبهة القتال، لأنَّ الحبَّ الأكبر الَّذي يجمعهما معاً هو حبُّ الوطن المعبِّر عن إيمانهما العظيم بأرضه، وتجذُّر الانتماء إليه، فعلا على مشاعر الشوق واللهفة والافتقاد لأنَّ الوطن أوَّلاً، وعندنا أنَّه معادل للإيمان مثلما تقول الأمثال الشعبيَّة المتداولة بين الناس في بلادنا.
ينوِّه الشاعر بما فعلته الحبيبة العاشقة إذ لم ترتمِ على صدر حبيبها المتيَّمة به لتمنعه من الذهاب إلى حيث معارك الشرف والفخار:
“أقسم أنَّه كان حبَّاً
فتأمَّل- ذلك كان صنيعها
لكن لو أنَّك دعوت الربَّ نفسه إليك
أتظنُّ أنَّ شيئاً ما في الحبِّ يمكن أن يُفهم.” ص84

هذه القصائد
مقاطع غنائيَّة جميلة تتحدَّث عن أشياء بسيطة لكن عميقة في مضمونها، لها رؤاها ودلالاتها البعيدة، يوردها الشاعر، صاحب المعاناة المرَّة في الحرب إذ ترك المدرسة، وهو في الصفِّ التاسع، ليلتحق بالجيش متطوِّعاً، فأبلى بلاءً حسناً، وأصيب بجراح ثخينة مؤكِّداً بثقة عالية درجة اليقين أنَّ كلَّ شعب يناضل ضدَّ المحتلِّين دفاعاً عن وطنه لا بدّ أن ينتصر مهما طغى الوقت العصيب، وعظمت التضحيات، والمعروف أنَّ الاتحاد السوفييتي قدَّم على مذبح الاستقلال في الحرب الوطنيَّة العظمى، أو ما سميَّ بالحرب العالميَّة الثانية الَّتي انتهت بهزيمة النازيَّة الألمانيَّة، وانتصار الحلفاء، عشرين مليون شهيد.
.. وما هو عنها بالحديث المرجَّم
“آخٍ، أيَّتها الحرب السافلة
ما الَّذي فعلته؟ منحتنا عوضاً عن الأعراس فراقاً ودخاناً..” ص 16
تتناول أغلب القصائد حوادث مفجعة عن الحرب الأليمة في تفصيلات بسيطة دالَّة: فالأولاد بدل أن نراهم يكبرون أمام أعيننا يذهبون جندياً وراء جندي، كذلك الفتيات المقاتلات وزعن فساتينهن البيضاء على أخواتهن الصغيرات، أمَّا الإلهة الكومسموليَّة فقد تركت في صالون الحلاقة جديلتيها، ولم يعد لها من أثر:
“فقط أصوات الرعد تلفُّ المكان!
أمَّا الإلهة الكومسموليَّة…
آخٍ يا إخواني؛ هذا حديث آخر!”  ص19
تكثر الإهداءات إلى أسماء بعينها، وأخرى مرمَّزة بالحروف الأولى، ربَّما تعبيراً عن واقعيَّة الحالة، وحدوثها بالفعل مع الرغبة في حفظ خصوصية المهدى لهم، كما نقرأ قصائد بلا عناوين محدَّدة، إنَّما قوسان بينهما بضع نقاط فحسب. ويبدو أنَّ الشاعر تركها كي يتيح الفرصة لإشراك القارئ في عملية الكتابة، بأن يختار بنفسه عنواناً لهذه القصيدة أو تلك، إذ تظهر بعض القصائد مفتوحة المدى باتساع لا محدود على تأويلات عديدة كما في ص36 مثلها القصيدة الَّتي يمكن أن تحمل عنوان “تجمّد القلب” وهي ذات بنية سردية مع تفصيلات المشهد الدرامي، فيها الشخوص والحدث الواقعيُّ بحضور فوج جميل من الخيالة: المكان عند المنعطف، الزمان قبيل المعركة المرتقبة، كذلك الحوار بين جمهرة السيِّدات المتحرِّقات للرقص والعقيد القائد مع المفارقة في الخاتمة:
“الشمس تسطع، والموسقا تصدح، فلماذا إذاً يتجمَّد القلب؟
هناك عند المنعطف يقف فوج جميل من الخيالة أمام جمهرة من النساء.
تحمرُّ وجوه السيِّدات، ويتحرقن للرقص
لكنَّ العقيد القائد يقول وهو على ظهر فرسه الكميت:
ـ ماذا حدث لكنَّ؟ هل نسيتنَّ كلَّ شيء؟: الرقص كان يوم الأربعاء اليوم هو الأحد. والخميس تبدأ الحرب، وما من نجاة ففي ميادين القتال يتنزَّه الموت في كلِّ مكان.” ص80
القصائد المختارة غنائيَّة جميلة، يغلب عليها الهمُّ الإنسانيُّ العامُّ، وسمتها أنَّها أناشيد في مدح المرأة، والتنويه بموقفها من الكفاح الوطنيِّ، وتضحيتها بروحها في سبيل ذلك، فها هما أوفيليا ومرغريتا أصبحتا شبحين:
“كم من النساء الشهيرات/الخالدات اللواتي يلفهنَّ المجد.
ولكنَّنا وسطهن جميعاً/نلتفتُ إلى شبحين معروفين:
أوه أوفيليا:
– اذكريني في صلاتك
أوه مرغريتا:
– هنا أموت عند قدميكِ.” ص90-91
وقد أعلن الشاعر في أكثر من حوار أدبيٍّ:
ـ منذ زمن طويل لم يغنُّوا عندنا عن الحبِّ، وظلَّت المرأة في الآن نفسه، وبالنسبة للكثيرين، كائناً يبعث على الشكُّ، وأنا انطلاقاً من احتجاجي على المراءاة والنفاق قررت أن أغنِّي المرأة كائناً مقدَّساً، وأن أركع أمامها على ركبتيَّ.
كتب بولات أكودجافا سيناريوهات لأفلام عديدة، وصدرت له أكثر من مجموعة شعريَّة، والكثير من الأسطوانات الغنائيَّة في روسيا وخارجها، واليوم يمكنك الاستماع إلى قصائده المغناة في الأفلام السينمائيَّة والمسرحيَّات، ومحطات الإذاعة.
“أقسم  أنَّه كان حبَّاً”  مختارات للشاعر بولات أكودجافا
ترجمة الدكتور ثائر زين الدين- الطبعة الأولى/ دار علاء الدين 2014
أيمن الحسن