ثقافة

فهد خالد حلاوة في “عودة العنقاء”.. التقابل الجدلي بين النص والمفسر

في زمن التلاشي أرى  ما قد رآه  فالتر بنيامين،أن لهب النقد/القراءة  ينبثق من “الحطب الثقيل للماضي ومن الرماد الخفيف للحياة التي كانت”.
ويرى هايدغر:”إن الفانين يقيمون حيث يغيثون الأرض وأن نغيث الأرض لا أن نبعد عن الخطر فقط، بل بالضبط أن نحرر شيئا،وأن ندعه يعود إلى كينونته الخاصة.

من هنا تتخذ “عودة العنقاء” للقاص فهد خالد حلاوة لنفسها مداراً فكرياً، على قواعد فلسفية، حول قضايا ومفاهيم ومشكلات “اللامعقول” و”الزمان” و”المطلق”؛ باعتبار القص يمثل-في جوهره-قضية أو مشكلة كبرى، تجسد ملامح العنقاء، وتكوّن الذهنية المتجادلة، وتشكّل رؤية خاصة بالعالم، ذات اتجاهات لا نهائية الأبعاد في هذا الإمحاء المريع.
إذ اعتبرنا هذه المجموعة القصصية أنموذجاً لحركية الفكر الإنساني الدائرية كما جاء في كلمات التقديم التي جاءت بقلم أحمد طنطاوي ورجاء البقالي ــ لها دلالات وأبعاد عديدة منها تشجيع القرّاء على البحث  في الذاكرة  والقفز السريع  خلف ضوء المعنى.
“البلاغة إيجاز”مع ذلك، لا يكتفيا بالتقديم العام، ولكن حاولا أن يبعثا فينا كقرّاء روح دونكيشوت وإذكاء روح التنافس كي تنتعش طواحين الهواء، برؤية قاص لا يشق له غبار،يَمُجُّ سواد قلمه في بياض ما يمهِّد للخطو بالعمل الذي يقدمه على مدارج الارتقاء،وبحذق لافت وذكاء وقاد، ولغة مشرقة البهاء.فهل أن التفكيك مدمر حقاً؟ إذا كان الجواب نعم، كيف يكون ذلك ولماذا؟ وإذا كان الجواب لا، فلماذا هذا الرعب من تفكيك النصوص عبر التقديم؟
ربّما نجد ملامح  الجواب ضمن السؤال الأول الذي يطرح نفسه في هذا السياق حول ماهية هذا التقديم وحول نطاق تلك المرآة العاكسة للصراع الأزلي بين القوي والضعيف الذي ترتكز عليه  نصوص الجنون،نصوص الاكتشاف والولادة في”عودة العنقاء”.
هل مثَّل هذا التقديم المفصَّل الطويل بين القرّاء الحاجز الذي يحيل بينهم وبين الوصول إلى الهدف  ليشكل البرزخ  أم المصطلح الذي اصطلح عليه  دي مان”بالتقابل الجدلي بين النص والمفسر”..؟*
هل جعلا من اللعب باللغة طريقة في التعامل مع تفكيك  شفرة الآلهة..؟
ضمن هذه الولادة/الحركة الفيزيائية الكونية،كان لابد للعنصر اللغوي أن يتخلى عن بعض قيمه الدلالية الذاتية ليكتسب قيماً دلالية ذاتية جديدة،تهدف إلى الكشف عن عالم إنساني متشكل من بعض المظاهر المرئية في الكون والحياة، فيرتقي مفهوم القيمة التداولي، بعملية الخلق الإبداعية، مما هو كائن إلى مستوى ما ينبغي أن يكون من خلال القص.
ربما كان على الأسئلة التي يقترحها القاص على نفسه أن تميل إلى جدارة قلب عملية التفكير هذه، ما حدود خروجه عن الشكل السطحي والرتيب للتقديم وللحوارات القصيرة جداً؛ أليس هذا ما يربك القارئ، ويخل بأفق انتظاره ويؤزمه؟. ومعنى هذا أن حلم العنقاء مشدود إلى قارئ يحترق ويموت معها ويعود للحياة معها ككل الكتب”التي تستحق أن تقرأ،لا تبوح بلعبتها إلا بإعادة القراءة.” (خوليان ريوس) حيث يتحول الشغف بالجملة والمعنى، إلى محاولة قتلهما، وتصبح الجمل مجرد ناقلة “لبيان شرعي” ونقاب دون أن تبحث عن مرجعية ما خارجها.
يُخرِج إذن “حلاوة” عنقاءه من الرماد، الرماد المحنّى،متسائلاً عن مدى وجود ذاكرة تاريخية أخرى،لا تكون مجرد خفافيش تشعل نار الفتنة  زوراً، بل قادرة على حمايتنا ساعة الغفلة، قادرة أن تعيد للحاضر قوته وكثافته؛ ومن جوهر هذا التناقض ينبثق كل شيء.
مرآتان متعاكستان، متزامنتان في القص والتقديم على صعيد تيار الوعي،مختلفتان  في الأزمنة الواقعية والتأريخ، هذا القاص حلاوة صاحب الومضات واللغة المضيئة الجاذبة لفراشات المعنى هو جلجامش الذي  يمخر عباب الأزمنة والأمكنة والكائنات بحثا عن عشبة الخلود، وهو الذي يستبطن آلهة الأزمان الغابرة كي يضعنا أمام مسوخ الأزمان الحاضرة، ويسكن الرماد،إنه الأعمى المبصر  المسافر  المقيم فيه، الذي لا يبرحه عندما ينفصل عن جسده، إنه المغمر في اللذة والفناء.
إنه “المنشد” الذي يحاول أن يتخلص من لحظة الحاضر، يخونها ليحصل على ذاته في لحظة ومكان مغايرين، تصبح المعرفة خيالاً، والخيال الذي يتسرب تناوباً بين الأسطوري والتاريخي  ليعثر على حجاب الصفاء.
“كان صوته حزينا يسحرني،ينطلق من الشارع البعيد.. تبعته في الزحام بلهفة، وعندما لقيته، وجدته أبكم وأعمى فازداد ولعي” ..ص- 51
في هذا لا تترك ومضات “حلاوة” مجالاً للشك،ثمة ثبات مطلق مُحاط بحركة لا تتوقف،حركة بمثابة تحول، شرق غرب،عودة للخلف، فراشة ترفرف، وتنتظر النور،لتراقص أجنحتها في وجه الريح وترى. “هناك في حيز الموت اتّجر وكسب وأثرى، قرر التوجه إلى حيز الحياة استأثرت به الحياة الثالثة”.ص-31
تذكرنا عنقاؤه بانفعالاته العابرة والمتشظية،واستحالة عودة ما كان وتحت عنوان  “براق” يقول “اتهموها بالتمرد أنها نزعت حجابها عن وجهها لترى، سألوها وصيتها وهي قاب قوسين وأدنى من الإعدام. أجابت: ليت أن الرجال يلبسون البراقع”.ص-71
ليست “ولادة العنقاء” بهذا المعنى سوى إعطاء معنى للموت،أن نموت بالكتابة،وأن نحيا بموتنا كالعنقاء.
إذن، يتبيّن مما قدم له وبشكل سلس لا يعتريه أي ريب أن اللغة هي السرّ الأعظم لجمال ولادة العنقاء/الكتابة،  والأسلوبية هي محور ورحى ذلك العالم السريّ.
ونخلص من ولادة العنقاء إلى نتيجة مفادها أن وعي القاص  بجوهر القص القصير (ق.ق.ج) الكامن في قدرته الفنية على التعبير عن العلاقات بين الواقعي والخيالي قد مكنه من تقديم طرح فني للتقابل الجدلي بين النص والمفسر.
وتبقى ولادة  العنقاء مراودة للفناء، ضمان للخلود، ومرادف للبقاء،هي الحقيقة الوحيدة رغم تعدد أشكال الموت ‘وتبقى  العنقاء /الكتابة تشبه العشق،والعاشق هو الأكثر استعداداً للموت.”
ولابديل لنسيان هذه الكينونة العصية سوى العشق،حتى نربط بين الحبر والقبر، الروح والجسد حيث أن شكل الإقامة في معنى آخر شكل للعشق الإلهي، وتبقى المعشوقة الأولى  “سورية”حاضرة في الغياب.
فتهنئة صادقة للأستاذ “فهد خالد حلاوة ” على هذا الإنجاز الصادر بإخراج فني بديع عن مؤسسة سوريانا للإنتاج الإعلامي  بدمشق، 2016

*كريستوفر نورس: التفكيكية بين النظرية والتطبيق،ترجمة عبد الجليل جواد، دار الحوار للنشر والتوزيع،سورية،ط1 199
أحلام غانم