ثقافة

في رحيل سامي القباني.. قامة علمية وطنية

كما عودتنا الأيام تأخذ في غفلة منا كل جميل متميز، ويمضي الوقت آخذا في دورته السريعة من لم نجد الوقت لنقول لهم قبل رحيلهم كم أحببناهم. هكذا هو الوقت يمر سريعا دون إعلان اقترابهم من محطة الرحيل، فمنذ أول دورة وقت، كل الأوقات قد تكون وقته. لذا عندما ينطلق حاملاً من أحببنا، يكون الوقت قد خطفهم إلى الأبد، ومضى بهم حيث لا ندري.
ثمة زحمة موت هذه الأيام، لذا أجدني مقصر في سباق الرثاء وتقديم العزاء. ولئن كان الرثاء ضرب من المديح المتأخر. ماعاد الراحل معنياً به، فإنه تخفيف إلى هذا الحد أو ذاك من شعورنا بالتقصير ليس أكثر تجاه من نضع إكليل ورد على ضريحه، لأننا لم نقل له وداعاً ولم نرفع السماعة يوم كان حياً، لنقول له كم نحبه.
اليوم أجد الكلمات تخونني في حضرة رثاء الدكتور سامي صبري القباني جراح القلوب التي أضناها الحب وأتعبها الطموح وخذلتها ويلات الدنيا.. يطول الحديث في حكاية هذا الرجل، قامة علمية عالية متفوقة من ألف قامة، وقامة وطنية قل نظيرها في زمن بيع الأوطان وتردي الأخلاق وتراجع المثل والقيم، فالعلاقة قديمة متوارثة مع هذه العائلة الكريمة تعود لعلاقة والدي عبد الغني العطري الوطيدة مع والده المؤسس د. صبري قباني الرجل والطبيب المثالي الذي رحل في العام 1973 بعد رحلة طويلة من العطاء والبهاء والنقاء كان يفتح فيها أبواب عيادته للمعاينات المجانية وتقديم الدواء مجانا لكل محتاج. فأين في زمننا هكذا أطباء في وقت تورط فيه بعض الأطباء في تسليع مهنة هي من أنبل المهن وجعلوها تجارة تدر عليهم دون رحمة وتراحم الملايين من آلام الناس وعذاباتهم.
سامي القباني هو الابن الأكبر للدكتور المؤسس صبري القباني وقد سار على درب والده وتخصص في جراحة القلب، فأبدع وتفرد حتى تسابقت عليه بعض الدول ساعية لاستقطابه مقابل مركز علمي وراتب خيالي. وللحق كنت شاهداً على أحد العروض المغرية، لكن الرجل اعتذر وقال بالحرف: خلقت في دمشق وأريد أن أخدم ابن وطني وأن أموت فيها. أما المال فلدي مايكفي ويزيد. وقد كان له 0ما أراد فقد جاء في زيارة عابرة لدمشق والتقى أحبته والأطباء وخلال رحلته القصيرة قال القدر كلمته في ساعة الرحيل التي أرادها بدمشق كي يوارى فيها الثرى. هل هو حدس الرجل أم قدرته على اختراق الزمن الآتي..؟ هكذا هم الكبار وسامي القباني منهم.
آخر لقاء بيننا كان في عزاء النقيب ورجل القانون الأول رياض العابد رحمه الله. يومها غادرنا سوية مكان التعزية وأوصلته في سيارتي إلى منزله ودار بيننا حديث حول الأوضاع، فكان يبكي ألماً ووجعاً على بلاده التي أحب ثم وجدته يستشيرني في سفره، حيث تلح عائلته في السفر مراعاة لظروف أبنائه في الخارج، فنصحته بالبقاء والسفر على سبيل الاطمئنان على أبنائه، فكان ميالا للأخذ برأيي، أو لعل هذا ما كان يستبطنه وينتظره مني.
ذات يوم زرته في عيادته آخر شارع الحمراء وفي قلبي خوف من تسرع في دقات قلبي خلته خللاً في قلب أتعبه الحب والجمال والدلال والعمل الدؤوب والطموح الكبير. فأجرى الرجل مايلزم من فحوصات، ثم قال لي: “قوم يازلمة حاجتك دلال ترى قلبك وكالة متل النار بس كتر رياضة ومشي”.
برحيل سامي القباني المبكر نخسر قامة طبية وعلمية وطنية قل نظيرها. وليتهم بعض الأطباء بسيرته يقتدون وبخلقه السامي يتمثلون..
سامر العطري