ثقافة

أطـيـاف الـجـمـال .. فـي شـعـر بـدوي الـجـبـل

د. سعد الدين كليب

تنهض التجربة الجمالية, في شعر بدوي الجبل, على مفهوم الجمال, في المقام الأول. ونكاد نقول في المقام الأخير أيضاً, لولا بعض التنويعات القيمية التي تدفع بمفهوم الجمال إلى التداخل في مفهوم البطولي, في القصائد الوطنية خاصة, أو تدفع به إلى التداخل في مفهوم العذابي, في قصائد الغربة والفقد. وما سوى ذلك, فإنّ لمفهوم الجمال حضوراً طاغياً, في مجمل شعر بدوي الجبل. بل حتى تلك القصائد السياسية- الوطنية والوجدانية الاغترابية لا تفتقر إلى ذلك المفهوم صرفاً أو مشرّباً ببعض السمات البطولية أو العذابية. وهو ما يجعلنا نؤكد أنّ التجربة الجمالية لدى بدوي الجبل هي تجربة الجمال مشخّصاً بعدد كبير من الكائنات والظواهر والأشياء, والمشاعر والقيم الاجتماعية. وفي الصدارة منها: المرأة والطير والروضة والنهر والحب والصداقة والوفاء والعدالة.

لقد وسمت تجربة الجميل تلك, شعر بدوي الجبل موضوعاً وبنية وصورة ورؤية, بالإضافة إلى جمالية المكان فيه. وقد لا يبالغ المرء, في القول إنّ الكلاسيكية العربية المحدثة لا تتمثل بمفهومها عن الجمال, في شعر شاعر, بقدر ما تتمثل في شعر بدوي الجبل الذي يقدّم مادة غنية للباحث الجمالي المعنيّ  بالصورة المثلى الدالّة على تيار أو مذهب أدبي بعينه. فشعر بدوي الجبل إذ ينطلق من تجربة الجميل, يعبّر ببراعة وعمق عن وعي الكلاسيكية المحدثة وعن قيمها الأسلوبية والفنية والجمالية جميعاً:
لبنانُ يا حلم الفردوس أبدعه            على غرار ذراك الواحد الصمدُ
حسنٌ أتمّ على لبنان نعمته             محسَّدٌ وتمام النعمة الحسدُ
الحسن منسجمٌ فيه ومختلفٌ            والحسنُ مجتمعٌ فيه ومنفرد
جرى سنى البدر ماءً في خمائله               فرُحْتُ بالموجة الزهراء أبترد
إن استعلاء تجربة الجميل قد أدى إلى استعلاء مختلف الرموز اللغوية والمكانية والزمانية والروحية الدالة على الجمال. وهو جمال ذو طبيعة قدسية, ترى في الكون صورة من صور الله, أو ترى في الخلق تعبيراً عن جمال الخالق. ولهذا فإن التوجّه إلى جمال الخلق هو نوع من التولّه بجمال الخالق:
ظلمَ الجمالَ – أبا علي- من رأى            أن الجمال غواية تتودّد
حب الجمال عبادة مقبولة            والله يلمح في الجمال ويُعبد
وبما أنّ الأمر على هذا النحو, من التداخل بين الجمالين, فليس من المستغرب أن يذهب الشاعر إلى القول:
أوجهها أم بيته قبلتي              أستغفر الله فلي قبلتان
أو إلى القول:
لم يعنني عسرٌ ولا شدّةٌ              الله والسمراء لي المستعان
وعند التدقيق في شعر الشاعر, فإنّ الباحث لن يجد سوى قبلة واحدة أو مستعان واحد. وهو- وهي أيضاً- الجمال سواء أكان ألوهياً, أم روحياً, أم حسّياً. وما هذه إلا تجليات الجمال. ومن هذا الباب, فإن شعر بدوي الجبل هو بعض تلك التجليات:
إني أكرّم شعري في متارفه           كما تكرَّم عند المؤمن السُّوَر
هدية الله فيها عطر جنّته                       والخمر واللعس النشوان والحَوَر
إنّ شعراً يحتفي بالجمال, على هذا النحو من الوله, من الطبيعي, أن يُحتفى به بوصفه تعبيراً عن الجمال الأسمى. وقد يبدو من المفيد أن نشير إلى أنّ الشاعر لا يرى بحسب البيتين السابقين, أنّ شعره محاكاة للواقع. بل هو محاكاة لجنّة الله, أو الأدق هبة من الله لها خلاصة جنته أو عطرها. وفي هذا توكيد آخر على الطبيعة القدسية للجمال, عند الشاعر. نقول ذلك, على الرغم من أنّه كثيراً ما يزاوج بين الطبيعة الشامية والطبيعة الفردوسية, فيرى أنّ هذه صورة من تلك, أو يرى أحياناً أن الفردوس أقلّ فردوسيةً- إن صح التعبير- من الطبيعة الشامية. كما مرَّ بنا في المقطع الذي يخاطب فيه لبنان, وكما سوف يمرّ ذلك لاحقاً.
يرتبط مفهوم الجمال, عند الشاعر, بما هو روحي قدسي, من دون أن يصطبغ بصبغة دينية محددة, في مجمل شعره, ما خلا قلة من القصائد ذات المناجاة الدينية, كقصيدة “الكعبة الزهراء” هذا من جانب, ومن جانب آخر، فإنه يرتبط بما هو شعوري لذوّي. حيث تشكل المشاعر الملذة المصاحبة لعاطفة الحبّ أساساً من أسس الجمال، عند الشاعر. فالجمال بهذا المعنى، مقدّس ومحبوب وملذّ. ولهذا لا غرابة في أن يعتصم الشاعر بحبل الجمال، مكرِّماً إياه عن الابتذال، ومدافعاً عنه بمختلف تجلياته الحسية أو الروحية أو الألوهية. ولقد تذوق الشاعر متعة تلك التجليات جميعاً بذائقته الفنية، وأعاد إنتاجها شعراً، يتجادل فيه القدسي والحسي والروحي والوجداني. ولعل في هذا ما يجعل الباب مفتوحاً، على عدد من التأملات المتفاوتة أو المتناقضة أحياناً. وفي شعر الرجل ما يربك القارئ أو الباحث أحياناً. فمن اعتصام بالله، إلى اعتصام بالمرأة، ومن تذوق لخمرة الروح، إلى تذوق لخمرة الجسد… الخ. غير أنّ للبدوي مثلاً أعلى للجمال، لا يفارقه في مجمل شعره. بل إنّه موكّل بتمثيله شعراً. وليس فيه من تناقض فعلي، إلا ما يبدو ظاهراً من خلال تعدّد تلك التجليات التي ليست عند التحقيق سوى صور مختلفة لجوهر مؤتلف. وهو الجمال المطلق:
ويا نفسي عبدتك عن يقينٍ                  وحسبي قد عبدت بك الإلها
أحبّ الحسن في الحدق الرواني           وفي ثغر الفتاة وفي لماها
وفي عِطْفٍ يثير هوىً ملحّاً           إذا رفّت عليه ذؤابتاها
وفي نهدي منعّمة لعوبٍ                       وفي ماء الخدود وفي لظاها
وفي ضحك الطفولة وهو سحرٌ                 وفي مرح الصغار وفي دُماها
وأنكر قدرة الخلاق روحٌ                         رأى صور الجمال وما اشتهاها
لمن جُليت بزينتها عروساً               وفيمَ أحبّها ولمن براها
من المعلوم أنّ ثمّة قرابة ما بين شعر البدوي وشعر المتصوفة، وقد أشار إلى ذلك معظم دارسي شعر البدوي، كما يستشعره كلّ من يقرأ ذلك الشعر. ويخيل إلينا أنّ تلك القرابة تنهض أساساً من مفهوم الجمال الذي يكاد يكون موحّداً، عند كل من البدوي والمتصوفة. وهو الجمال المطلق ذو التجليات النسبية – الحسية، الكلية والجزئية معاً. ولكن في حين صرف المتصوفة تجربتهم الروحية نحو المطلق، في المقام الأوحد؛ نجد البدوي يصرف تجربته الجمالية، نحو النسبي والمطلق، من دون أن يكون هنالك خلل أو اضطراب. إنّ النسبي هو باب المطلق عند البدوي، ولهذا لم يكن بدٌّ من دخوله أي لم يكن بدٌّ من التلذذ بالصور الجزئية، للجمال، ومن دون هذا التلذذ لن نستشعر لذّة المطلق. ومن هذا الجانب، لا نرى في شعر البدوي شعراً صوفياً، وإن كنا نرى في مفهومه للجمال، مضموناً ذا طبيعة صوفية، من حيث المنطلق.
لقد طبعت تجربة الجميل شعر بدوي الجبل، وأثرت تأثيراً طاغياً، في تشكيل جمالية المكان فيه. بحيث لا يمكن استيعاب هذه بمعزل عن فهم تلك. مما يعني أنّ جمالية المكان تقوم، في هذا الشعر، على مفهوم الجمال بصفاته القدسية والحسية معاً. وقد يرى الباحث أنّ الأمكنة كافة، في شعر بدوي الجبل، موصوفة بالجمال ومنذورة للمتعة، حتى قبور أحبابه ورفاقه:
وما وفى ليّ ممن كنتُ أوثرهم            إلا القبور وإلا الأيك والنهرُ
ولكن إذا كان الشاعر لا يستحضر إلا الأمكنة التي تروق له، ويرى فيها صورة من صور الجمال، فإنه في الآن نفسه يرى أن الطبيعة الخضراء هي ذروة الجمال المكاني. ولعلنا نذهب إلى أن المكان الفردوسي هو أساس جمالية المكان، في شعر البدوي. أما مكونات ذلك المكان فهي الشجر والنهر، والظلّ والنور والطير والعطر، والندى والنسيم.. وما يرادفها أو يصاحبها أو يتعالق بها. وهي كما نلاحظ مكونات الطبيعة الريفية الجبلية خاصة، والشامية عامة.
وعلى الرغم من أنّ الشاعر – وهو ابن الجبل – قد ذكر الجبل والأماكن المرتفعة مراراً. فإنّه يصعب القول إنّ للجبل، بوصفه مكاناً مرتفعاً، حضوراً ذا أهمية، في تشكيل جمالية المكان لديه. فهو مجرد خلفية قد تبرز وقد تغيب. في حين أنّ الحضور الطاغي قد احتازته تلك المكونات أو احتازته الجنان خاصة. ونرى أنّ السبب في ذلك، يكمن في تجربة الجميل نفسها. أي أنّ ميل الشاعر إلى بلورة مفهوم الجمال، قد دفعه إلى التخفف من بعض المكونات الطبيعية التي قد تحيل على مفهومات أخرى كالسموّ أو الجلال. ويعدّ الجبل من أهمّ تلك المكونات. وهو ما جعل الشاعر يأخذ من الجبل طبيعته الخضراء الدائمة، ويتخفف من صفات العلو والارتفاع فيه، اتساقاً مع ميله إلى تعميق الجمال. وهذا خلاف ما فعله عمر أبو ريشة الذي صدّر الأماكن المرتفعة عموماً، في مجمل شعره، تعبيراً عن تجربته الجمالية التي تتحدّد بأنها تجربة السامي.
لقد أخذ أبو ريشة من الجبل ارتفاعه–  وهو ابن المناطق السهلية–  وأغفل اخضراره الذي كان مدار جمالية المكان في شعر البدوي. وقد جاء ذلك كله اتساقاً مع طبيعة التجربة الجمالية لدى الشاعرين. وما يقال في الجبل، يقال في البحر أيضاً. فقد مال البدوي إلى النهر والنبع والساقية والبحيرة أكثر من ميله إلى البحر الذي هو الآخر له ارتباط محلوظ بالسمو والجلال في الوعي الجمالي الإنساني عامة. ومن البدهي أننا لا ننفي اعتناء الشاعر بكل من الجبل والبحر، ولكننا نؤكد أن جمالية المكان تتأسس لديه على مكوّنات الطبيعة الخضراء أولاً:
سألتني عنك الخمائل في الغوطة         تشتاق عطرك المرموقا
ودروبٌ خضرٌ عليها خطى                     الشاء تعيد التغريـب والتشـــــــــريقا
وظلالٌ سكرى وفوضى من الزهر         تحدّى جمالها التنسيقا
وهو حين يذكر الربى، غالباً ما يراها خضراً أو سمحة أو سكرى بالعطر. وهو ما يؤكد الإحساس بالمكان الفردوسي:
وبيتنا في ربوة سمحة                     حلو السفوح الخضر، حلو الرعان
وغابة يغفو الضحى عندها        وشمسها تغرب قبل الأوان
قبورنا فيها بلا وحشة                   يؤنسها في الوحدة السنديان
وقبة تحرس كنز الدجى              كأنها في الغابة الديدبان
والنبع والقبة في هدأة           يسرع دهرٌ وهما وانيان
ما هـزت الدنـيا أنانيـتـها           فتغرب الدنيا ولا يَدهشان
إنّها صورة من صور الفردوس، حيث الطمأنينة والأنس والجمال والأبد. ولعل في هذا ما يجعل الشاعر يرى في لبنان حلم الفردوس ويرى في الشام جنة تغار منها جنة عدنٍ، وليس هذا فحسب، بل حتى الشهداء في فردوسهم السماوي، يهزّهم الشوق إلى فردوسهم الأرضي، إلى الشام:
أيها الدنيا ارشفي من كأسنا            إنّ عطر الشام من عطر السماءْ
شهداء الحق في جنّتهم            هزّهم للشام وجدٌ ووفاءْ
تضحك “الربوة” في أحلامهم              هل عن الربوة في عدْنٍ غَناءْ
كلما هبت صباً من “دمّر”         رنّح الجنةَ طيب وغِناءْ
خيلاء الحقّ في عدْن لكم              يغفر الله لقومي الخيلاءْ
واعذروا عدْناً على غيرتها                 إنها والشامَ في الحسن سواءْ
إنّ ثمّة ولهاً بالطبيعة الفردوسية (الشامية في هذا المجال)، قد لا نجد له مثيلاً، في الشعر العربي الحديث برمّته، بما في ذلك شعر الرومانسية العربية الذي رأى في الطبيعة بديلاً من العلاقات الاجتماعية – الاستلابية.
وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أنّ ثمّة من يذهب إلى تأثر بدوي الجبل بشعر الرومانسية، بسبب من ذلك الحضور للطبيعة في شعره، وبسبب كذلك من بعض الملامح الوجدانية فيه. وعلى الرغم من أننا لا نميل إلى نفي ذلك التأثر، وإن يكن بدرجات محدودة. فإننا نذهب إلى أنّ الموضوعات الواقعية والنزعات الإنسانية والمشاعر الوجدانية هي ملك المذاهب والتيارات الأدبية جميعاً، والاختلاف الأساسي بين تلك المذاهب يكمن أولاً في طبيعة التفكير الجمالي وفي طرائق التعبير الفني ثانياً. ومن ذلك، فإنّ البدوي لم يغادر كلاسيكيته المحدثة، وهو في أشدّ حالاته كآبة وبؤساً، وأعمق حالاته عشقاً للطبيعة. فهو في الحالات كافة لم يكن يحسّ بالانفصال عن المجتمع بوصفه فرداً مغترباً، أو يحسّ بأنّ الطبيعة بديل من المجتمع. بل نكاد نؤكد أنّ المكان الفردوسي، في شعر البدوي، هو فردوسيّ بشراً وطبيعةً معاً. ولا يلغي هذا التوكيد بعض مظاهر الشكوى من الدهر أو من الساسة أو من قلة الوفاء لدى بعض من محضهم الشاعر الوفاء كله. فالمكان الفردوسي، إذاً، هو نموذج للجمال طبيعة وبشراً وعلاقات. ولأنّ الأمر على هذا النحو، فإنّ الابتعاد عن ذلك المكان هو شكل من أشكال التعذيب. إنّه نفي للروح خارج الجمال، وقتل للمتعة في الذات المبدعة. فإذا كان الشهداء يحنّون إلى الشام، وهم في الفردوس السماوي، فكيف بالشاعر المنفيّ من الشام، وهو يعيش في جحيم الاغتراب؟
وقد وجد الشاعر في رمز البلبل طاقة تعبيرية غنية، تستطيع أن تحمل عدداً من مشاعره الذاتية ومواقفه الجمالية، إضافة إلى اتساقه– أي البلبل– مع السياق المكاني الفردوسي. وهو ما يسوّغ ذلك الحضور الضاغط للبلبل، في شعر البدوي. حتى يجوز التوكيد أنّ قلّة قليلة من النصوص الشعرية، لديه، تخلو من هذا الرمز أو من مرادفاته كالطير والعصفور والشدو والتغريد… الخ، من مثل الجمل والأشطر الشعرية التالية: “أنا طيرُك الشادي”، “شادٍ على الأيك”، “من روّع البلبل الهاني”، “وبلبل الدوح ترضيه بأريكته”، “تأنّق الدوح يُرضي بلبلاً غرداً”، “وأنا البلبل في الأيك وفي الأسر يغني”.  فقد عبّر رمز البلبل عن مشاعر الأنس والوحشة، والألفة والغربة، والمتعة والإبداع، والرغبة في إشاعة الجمال بمستوياته. وهو فوق ذلك، يتسق مع جمالية المكان، في شعر البدوي، بل إنّه أحد العناصر الأساسية في المكان الفردوسي. وربما لهذا السبب لم يكن للنسر ومرادفاته، تلك الأهمية التي نالها البلبل، في هذا الشعر. إذ يبدو أنّ الجمال يحتاج إلى بلابل، ولا يحتاج إلى نسور. إنّ هذه الإشارة تريد أن تقول إنّ رمز البلبل جاء تعبيراً عن تجربة الجميل شعوراً ومفهوماً ومكاناً وتصوّراً. في حين أنّ رمز النسر لم يكن يحضر في شعر البدوي، إلا في المواقف الصدامية الدالّة على البطولة أو الكبرياء، في الأعم الأغلب. وهو ما يذكرنا، مرة أخرى، بعمر أبي ريشة الذي جعل النسر رمزه الأثير المتّسق أيضاً مع مفهوم السامي، لديه، ومع جمالية الجبل والأماكن المرتفعة عامة. والحق أنّ هذا الاتساق بين جمالية المكان والرمز الفني الأثير، في شعر الشاعرين، يدلّل على الاتساق العامّ في التجربة الجمالية عند كلّ منهما.
إنّ لجمالية المكان الفردوسي تأثيرها الطاغي، في شعر البدوي، على مختلف المستويات النصية لغةً وأسلوباً وتصويراً، بشكل لا يمكن الكلام فيه على تلك المستويات، من دون الأخذ بالاعتبار تلك الجمالية القارّة في بنية النصّ الشعري، لدى الشاعر. حتى قد يحار المرء من أين يدخل إلى ذلك النصّ. أمن باب اللغة, أم من باب الصورة, أم من باب الوعي الجمالي – المكاني؟
ولأن المقام لا يسمح باستعراض مجمل جوانب النصّ الشعري، فإننا نكتفي بالوقوف سريعاً عند المعجم اللغوي لدلالته المباشرة على ما نحن فيه.
يتكوّن المعجم اللغوي، في معظمه، من المكونات الطبيعية للمكان الفردوسي ومفرداته، بحيث يطمئن الباحث إلى التوكيد أنّ الشاعر كان يسعى إلى إعادة إنتاج الفردوس بنصٍّ فردوسي محايث. سواء أكان ذلك على صعيد العناصر، أم على صعيد التصوير أم الفضاء أم الإمتاع. ولم يكن لهذا أن يتمّ، بحسب الوعي الجمالي الكلاسيكي لبدوي الجبل، إلا بالمحاكاة، في العناصر والتخييل معاً. وهو ما يسوّغ ذلك العدد الهائل من المفردات الدالّة على تلك العناصر؛ والتي يمكن تصنيفها على عدة حقول دلالية حسية ونفسية وروحية، في الوقت نفسه. وذلك من مثل حقل المتعة: كالخمرة والشهد والعطر والنفحة والشدو والتغريد… الخ؛ وحقل الأنس والطمأنينة، كالورد والندى والنور والظلّ والفجر والقمر والأيكة والدوح… الخ ؛ وحقل الحيوية كالنبع والنهر والحور والطير والربيع… الخ. ومن البدهي أنّ المفردات لا تنهض بهذه الدلالة أو تلك، إلا في إطار السياق الخاص والعام, أي سياق التركيب اللغوي وسياق النص عامة. غير أنّ هذا لا ينفي إمكانية القول إنّ تلك المفردات تشكل عناصر المكان الفردوسي. وهي في إحالتها على تلك الحقول الدلالية تشكل بعض عناصر الجمال شكلاً ومضموناً وشعوراً. فالمتعة والأنس والطمأنينة والحيوية، من أهمّ ما يتأسس عليه الجمال، في الوعي الإنساني عامة، وفي شعر البدوي بالضرورة. وإذا ما نظرنا إلى تلك المفردات، من خلال علاقتها بالحواس، فسوف نجد أنّها تتصل بالحواس الخمس كافة. وهو ما يعني أنّ المتعة الجمالية تعمّ الجسد والروح معاً، في المكان الفردوسي المتخيّل، المكان الذي يبدعه الصانع الأمهر بدوي الجبل.