“وجع”.. الخنساوات السوريات في زمن الحرب
في زمن وجع الحرب، والإيمان بالشهادة القدر والنصر الحتمي، لا بد أن تطرح أسئلة الوجع نفسها وبإلحاح، أن تبحث بعضها عن إجابات تضمينية الدلالات القيمية لتحديات الرحم السوري.. السوريات (الطفلة، الصبية، الأم السورية) في مواجهة الإرهاب الظلامي التكفيري.. وفي أزمنة عرض الفيلم التسجيلي التوثيقي (وجع) في دار الأوبرا بدمشق والمراكز الثقافية (جبلة، طرطوس، حمص….) وعروض أخرى في بيروت وغيرها، لا بد أن نعود للسؤال حول رجع الصدى لدى الجمهور وقنوات التلفزة والإذاعات ومواقع التواصل الاجتماعي ممن يتابعون التحليل والقراءات النقدية والحوار بشغف، حول أهمية الفيلم ورصده الانتقائي الملحمي لمشاهد وجع الأزمنة والأمكنة، وذلك الدمار البنيوي والنفسي التراكمي لمخلفات الحرب الكونية الإرهابية الشرسة على سورية. والسؤال الأهم حول حاجة المتلقي للتفاعل مع النتاج الفني الإبداعي، وأثر الدور الثقافي في إنجاز مثل هكذا أعمال تسجيلية متقنة تسطر في رؤاها الفكرية حقائق، تعتبر (الشاهد والوثيقة) للتاريخ والأجيال.
الجرأة الإنسانية الآسرة
قدمت السينما السورية والتلفزيون السوري الكثير من الأعمال الوثائقية التسجيلية والأفلام والمسلسلات الدرامية حول ما سطرته المرأة السورية من صفحات نور في جميع المجالات، تحكي أقاصيص نماذج انتقائية لنساء وطنيات أسهمن في تنمية المجتمع.. أنتجت قدراتهن دوراُ هاماً في المشاركة بالمواقع العلمية والثقافية والاقتصادية وحتى السياسية، مسلطة الضوء حول تمتعهن بحقوقهن من تثقيف وتأهيل وعلم ومعرفة، مما عزز مواقعهن وشخصياتهن الفاعلة في مجال الخدمة العامة، وأيضاً المرأة السورية المقاومة (المقاتلة والقيادية في الجيش العربي السوري ومواقع كثيرة، الأديبة، الطبيبة، المحامية، القاضية، العاملة، الممرضة… الخ) وقدرة المرأة المتفوقة على تقييم ما تتلقاه من معارف ومعلومات تدعم دورها في معايشة قضايا العصر والانفتاح على العالم الخارجي، وما تعيشه من يوميات في الحياة العامة والأنشطة المختلفة على نطاق أسرتها وما يتعلق بتربية أبنائها، بما ينصف مكانتها السامية في المجتمع السوري، غير أن تلك التجارب الهامة في مسيرة الوثيقة السورية لم تتمكن لمرة واحدة من التفوق على الواقع المعاش، وخاصة ما عانت منه المرأة السورية في زمن تكالب الأنياب الظلامية على سورية، وربما كانت المرة الأولى التي يشهد معها الجمهور مادة فيلمية توثيقية تعتبر الواقع بعينه، الأليم والمتفائل على حد سواء، متجاوزة ما نعتبره معالجة نصية أو مشهدية تستدر العاطفة كعادة سيناريوهات تلك الأعمال المنتجة في السابق، وهنا يكمن سر وأهمية فيلم (وجع- الشاهد والوثيقة) المنفتح على الرؤى الإنسانية الاجتماعية والوطنية غير التقليدية، والبعيدة عن الإنشائية الخطابية والمباشرة، مركزاً الفيلم على الحساسية الروحية (النفسية والعضوية) لمختلف ضحايا الإرهاب الإجرامي (النزف النفسي، العنف الوحشي، الترهيب القمعي، السبي، الاغتصاب) والتي كتبت سيناريو نصه وشاركت في أداء التعليق بنبرة رصينة واقتدار (الإعلامية الأديبة فاديا محمود) مترجماً رؤى مشهدياتها الإنسانية والفكرية البصرية والريبورتاجية بتنوع مكثف (الإعلامي إدوار ميا) في تجربة إخراجية أولى تعتبر ريادية على مستوى الجرأة في تناول الحالات الإنسانية المصيرية والاستثنائية الآسرة في لغة العرض والمضمون الدرامتيكي.
يستحق عرضاً دولياً
لعل الحضور الجماهيري السوري النخبوي المتأثر بالوجع، منح مشاهدة الفيلم خصوصية ما يمكن أن نطلق عليه (الوعي الذاتي الجمعي) في ولوجه الفكري الواقعي إلى أدق تفاصيل سيرورة كل حكاية (أنموذج) على حدة، والتي تتقاطع حيناً، وتتشابك أحياناً، نوعاً من العزف الهارموني على وتر الحنين والأنين (لحظات التأثر والتأثير) فبدت تلك النماذج كحالة من نبش الذاكرة لمختلف الأوجاع خلال ست سنوات من زمن الحرب الوهابية الإجرامية على سورية، وهذا ما منح أيضاً المتلقي المشارك في ندوة الحوار المفتوح التي تلت العرض، أهمية نوعية في تسليط الضوء على جوانب هامة من مسارات الفيلم، على الصعيدين الإنساني الوجداني، والتحديات الوطنية لسورية، والتي تمركزت في تنوع مساراتها حول (الخنساء السورية ) أم الشهيد والجريح.. المرأة الصابرة الصامدة (حفيدة زنوبيا) في مواجهة العصابات المسلحة ممن هددوا حياتها بالموت والاغتصاب، وما عاشته من تراكمات اجتماعية ونفسية أنتجت المخاض التصاعدي المسيطر على عتبات أوجاع شخصيات مختارة بعناية من نساء ذقن المرارة بأنواعها، ولم يستسلمن للحظة، بل ومنهن من فجرت نفسها وعائلتها لتنهي لحظات وحشية حاسمة قضت معها على من حاولوا المس بشرفها من المجرمين الحاقدين..
وعلى سبيل المثال، هناك، وعند مقدمة صالة العرض في المركز الثقافي بطرطوس وقفت إحدى السيدات المشاركات في الفيلم، تدعو وبحماسة لعرض الفيلم في مختلف أصقاع الدنيا، كشاهد واقعي على حالات التهجير القسري والمعاناة المريرة التي أثقلت كواهل الكثيرين من المنكوبين على يد التكفيريين، وخاصة مدينتها حلب، التي ذهبت إليها مؤخراً ونادت في ذروة الانتصار للعودة إلى الحياة السورية، منطلقة بنشوة الإرادة المستمدة من مفردات وعناصر قوة تأثير الفيلم، للتأكيد على قوة الإيمان بالنصر، وأولوية الشهداء وأسرهم، موجهة الدعوة للجميع للعودة إلى البيوت المشتاقة لحياة السكينة والطمأنينة بحماية رجال الجيش العربي السوري، فبدت تلك السيدة وكأنها امتداد لمشاهد الفيلم في نبض إيقاعه الحيوي الواقعي والجريء من جهة، ولتلك التحديات للنماذج النسوية السورية الانتقائية في حوارات مشاهدها ورهافة لحظات شخصياتها المؤثرة بوجع المتلقين، ممن علت أصواتهم في التحليل والتشريح لفضائح الاغتصاب الإنساني لمختلف الأعمار من فتيات قاصرات وصبايا وأمهات من جهة ثانية، كدلالة على امتداد الوجع الذي أصاب السوريين جميعاً من مختلف مواقعهم وبيئاتهم وثقافاتهم ، وأيضاً ما نعيشه اليوم من أمل وتفاؤل نتأمل من خلاله المعاني السامية للشهادة ، وما قدمه الوطن وبواسل الجيش العربي السوري من تضحيات تكللت بالنصر.
تقاطع الوجع.. توازن الإيقاع
من البديهي في صناعة فيلم توثيقي بالغ التأثير(كتابة وإخراجاً) أن يأتي على خلفية معرفية ومخزون ثقافي وقانوني بحثي واسع حول مكانة وموقع المرأة السورية، غير أن المضايفات المنهجية في تناول شرائح النماذج المختارة، والفهم العميق لموقع شخصيات الفيلم الواقعية، تجاوزت الفلسفة والتحليل والتشريح للقوانين الاجتماعية السائدة، والتي أشار الفيلم إلى جوانب منها بشهادات عابرة لشخصيات فكرية وقانونية وسياسية من طرفي معادلة الصراع السياسي، قدمت وجهات نظر مكثفة حول موقع المرأة قبل الحرب، وصمودها في مواجهة ظروف الحرب، وما تعرضت له قبل وبعد تلك المواجهات، لتصبح بالنتيجة الرافع لمكونات مجتمع منتصر بنساء قادرات على غرس بذور الأمل، ومعاني التفاؤل في نفوس الأجيال القادمة، كما تناول قدرة تلك المرأة المنتصرة على اتخاذ القرار في الصمود والتحدي والشهادة، وكيف وقف بذلك العالم حائراً أمام قوتها، محققاً بذلك فيلم (وجع) معادلته الصعبة في تقاطع الوجع مع المتلقي المترقب لكل لحظة من دقائق رواية الأحداث المروعة والموجعة في تسلسل الخط البياني لكل حكاية على حدة، صعّد حالات ذرواتها الاستخدام الوظيفي للمؤثرات السمعية والبصرية أثناء سرد الشخصيات للحظات مشاهد العنف الجسدي والنفسي، بالتزامن مع الانتقال الميكانيكي المشهدي لحالات التدمير والتعذيب والإجرام، ثم الإمعان في اللحظة والكلمة مع متابعة أحداث الحكايات المفجعة، وأبشع صور الممارسات القذرة في اغتصاب الأرواح والأجساد البريئة، والتي بدت في عرض مشاهدها البصرية وتقاطعات حكاياتها الريبورتاجية، لا تخلو من المفارقات التركيبية لعناصر مكون الفيلم وأدواته التعبيرية الأخرى، من حركة عفوية مضطربة لكاميرات المراسلين الحربيين في رصدهم أجواء القصف الإرهابي والتخريب والتدمير، والمتأثرة طبيعتها باضطراب النفوس في أزمنة المعارك، إلى المزج وبالتناوب مع توازن الإيقاع في الاستماع للتعليق الأقرب في صياغته إلى السكب الأدبي والنسج الروائي الدرامي، وهو الرابط لتقاطعات المشاهد المحكمة وبوح شخصياتها، وكذلك الأمر مع تلك المقاربة القانونية والاجتماعية لشهادات طرفي (المعارضة والموالاة) والتي جاءت إطاراً عاماً لبداية ونهاية الفيلم، موجزة مضامين جوهرية لذاكرة مجهرية لا تزال مشاعرها حاضرة في وجدان السوريين الشرفاء، ممن صاغوا لغة النصر قولاً وفعلاً.. المقولة التي أكد عليها فيلم (وجع) في طرحه الأخير للرؤية الأعمق لأهمية دور المرأة السورية في المرحلة القادمة، والذي بدا غير مباشر في الاختيار الذكي لنماذج الحالات النسائية من محافظات ومواقع سورية عدة، نوعاً من البانوراما الحية لتلك المنعكسات النفسية والاجتماعية عليهن، وأنهن السوريات الصامدات في مواجهة قطار الزمن والحرب.
(وجع).. دعوة للخروج من الوجع للارتقاء والسمو النفسي والأخلاقي الاجتماعي في سورية الإنسان والتقدم والحضارة.
إلياس الحاج