ثقافة

سهير سرميني: تصدٍ جريء لواقع المصابات بمتلازمة داون في ” عرائس السكر”

مشهد البداية “فوران الحليب وانسكابه على الأرض.. وحوض السمك الذي انكسر وتبعثر زجاجه.. والسمكة الصغيرة التي لفظت أنفاسها الأخيرة” اختزل الانكسار الداخلي إزاء آلام الفقد وضياع الأمان، في فيلم عرائس السكر-إنتاج المؤسسة العامة للسينما -الذي استوحت عنوانه المخرجة سهير سرميني من قصيدة نزار قباني، ومضت بعوالمه الإنسانية الممزوجة بالحزن،والمسكونة بإحساس أنثوي ترجمته كاتبة السيناريو ديانا فارس، لتتصدى من خلاله لواقع معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة والأشخاص المصابين بحالة متلازمة داون، الذين مازالوا موضع رفض لدى كثيرين في المجتمع، ومازالت تفاصيل حياتهم ضمن القضايا المسكوت عنها، فتطرقت إلى الممارسات والسلوكيات الإيجابية والسلبية من قبل الأشخاص الطبيعيين تجاه أولئك الأشخاص الذين ظلمتهم الحياة والمجتمع أيضاً. ومن خلال المحور الأساسي للفيلم الذي يتناول معاناة الطفلة مروة التي أدت دورها ببراعة الطفلة المصابة بداون لأول مرة بالسينما العربية مروة الجابي، توجه سرميني رسالتها إلى الجهات المعنية والمجتمع بالسؤال من يرعى هؤلاء بعد غياب الراعي الأساسي والمتمثل بالأم في أغلب الحالات.
تطرقت سرميني بجرأة إلى حياة “مروة” الأنثى المصابة بداون والتي تعيش التغييرات الفيزيولوجية والجسدية التي تعيشها أي فتاة خلال مرحلة البلوغ، وما يمكن أن تتعرض إليه نتيجة سلوكيات خاطئة من قبل ضعاف النفوس تودي بها إلى نتيجة تضر بالمجتمع ككل. فعبَرت سرميني من المحور الأساسي للفيلم إلى حيثيات المجتمع لطرح مشكلات تعيشها الشريحة المتوسطة الشريحة الأكبر في المجتمع، إضافة إلى معاناة المرأة وإصرارها على تأمين متطلباتها الأسرية، لتتعمق أكثر بالحالة برفض الارتباط في حال وجود إصابة في العائلة، وفشل دمج ذوي الاحتياجات الخاصة مع المجتمع دون وجود بيئة حاضنة تستوعبهم.
جماليات نعيشها
في الوقت ذاته انطلقت بكاميرتها إلى عوالم جمالية نعيشها فعلاً وظّفتها سرميني ضمن السياق الدرامي كما في مشهد الدخول إلى الكنيسة والصلاة وقراءة الأب مقتطفات من الإنجيل تدعو إلى محبة الأطفال، ليلتقي بمقابلة بالمشهد ذاته مع بطلة الفيلم وهي تقرأة سورة الفاتحة في الكنيسة . لتنتقل كاميرا سرميني إلى جمالية المكان من ساحة باب توما وباب شرقي إلى حدائق دمشق إلى فضاءات الفنون وقلعة دمشق التي تحتضن معارض الفنون التشكيلية، لتخلص إلى الارتباط بالمكان والتشبث به معتمدة على البعد النفسي في تعلق مروة بمنزلها بعد وفاة والدتها، والإصغاء إلى أنين الصوت الداخلي المتجسد بأنسنة حصانها الخشبي المتحرك. لتصل سرميني إلى رفض مروة النهاية التي وصلت إليها بالعيش بدار الأيتام بعد رفض زوج أختها رعايتها، وكذلك رفض أخيها سفرها معه في أحد المشاهد الأخيرة حينما تقول لمديرة الأيتام أن اسمها دانة، وهذا يعني أنها شخصية جديدة مختلفة عن مروة التي فقدت أمها ومنزلها وكل ما يربطها بحياتها الماضية.
تفاصيل صغيرة
تترجم سرميني السيناريو إلى تفاصيل صغيرة تعتمد على الحدث البصري، تلخص إمكانات الحالات المرضية من حيث تباطؤ الكلام، وضعف التركيز،وارتكاب الأخطاء ذاتها كعادة مروة في فتح صنبور المياه، فتصوّر كاميرا سرميني حياة الأسر البسيطة وتحمل الأم المسؤولية، إلى واقع الحياة التعليمية وعدم استجابة مروة للتعلم في مدرسة التلاميذ الطبيعيين وعدّها عبئاً على الإدارة والتلاميذ، لتطرح سرميني مشكلة ارتفاع التكاليف المادية في مدارس التعليم الخاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، وعدم توافر الأمكنة في المدارس المجانية المشابهة، لتطرح مسألة أخرى من خلال تصوير نماذج لشخصيات إيجابية تعرف أساليب مختلفة لكيفية التعامل مع أولئك الأطفال مثل شخصية الصيدلاني وسوسن المصوّرة – الفنانة التي اكتشفت موهبة التصوير عند مروة وعملت على تنميتها وتشجيعها، لتصل من خلالها سرميني إلى وجود فروقات بالقدرات بين المصابين بداون مثل الفروقات بين الطبيعيين، ومنهم من يمكن أن يطوّر نفسه ويصبح عضواً فاعلاً على مستوى الحضور الشخصي على الأقل كشخصية مروة.
الأمر الهام الذي طرحته سرميني بجرأة هو تعرض مروة في أحد المشاهد إلى الاعتداء والتحرش من قبل بواب البناء، ليكون هذا المشهد مدخلاً لطرح قضية أكبر مازالت موجودة وهي العيادات النسائية المتطرفة والمشبوهة التي تقوم بحالات الإجهاض، لكن في الفيلم وظّفتها المخرجة لاستئصال الرحم عند مروة حتى تنهي الأم وساوسها ومخاوفها عليها، إلا أنها تتراجع عن موقفها الذي وصفته بالإجرام. وركزت سرميني في مشاهد متعددة على أنوثة مروة واهتمامها بترتيب نفسها وباندماجها بمشاعر الأنثى كمشهد رقصها وانسجامها مع الموسيقا.
رسالة سرميني
يبقى مشهد مرض الأم المفاجئ إثر تعرضها لجلطة دماغية وإسعافها إلى المشفى ولحاق مروة بها تحت سيل الأمطار الغزيرة هو الأكثر إيلاماً لتوصل سرميني رسالتها السينمائية إلى المجتمع بأن تلك الشريحة بحاجة إلى رعاية واهتمام فهم جزء من مجتمعنا، وبحاجة إلى دور رعاية خاصة مختلفة عن دور الأيتام لاحتضانهم في حال وفاة الراعي الأساسي.
موسيقا وإضاءة
تميّز الفيلم بالتركيز على أداء الممثلين لتصوير الحالة مثل دور الداية – غادة بشور- الذي أدته بطرافة وسخرية وترديد مفردات شعبية لتجسيد هذه الشخصية، بدقة فأضفت على الفيلم أجواء مرحة رغم قسوة الموضوع بما يشبه المضحك المبكي، ورغم بساطة الصورة تألقت الموسيقا التصويرية للفيلم للموسيقي باسل داود باستخدامه العزف المنفرد لعدة آلات كصولو ترافقت خاصة مع المشاهد الحزينة، إضافة إلى الإضاءة الليلية في بعض المشاهد التي وظّفت لعكس الإحساس بالحالة.
أضاف فيلم سرميني الكثير إلى السينما السورية وفي الوقت ذاته ينسحب على كل المجتمعات وليس على المجتمع السوري فقط، لعرضه حالة واقعية موجودة ومازالت إشكالية وذات علاقات جدلية.
تجربة سرميني الخاصة
وفي تصريح لـ “البعث” أوضحت سرميني بأنها صاحبة فكرة الفيلم لتأثرها بتجربتها الشخصية مع أختها المصابة بداون، وبأنها ترددت على الجمعيات والمدارس الخاصة للمصابين، وتعرّفت إلى عوالمهم والفروق الفردية بقدراتهم ووجود بعضهم ضمن حدّ معين لايمكن تجاوزه، في حين يمتلك بعضهم الآخر القدرة والاستعداد لتكوين مهارات خاصة. ومسألة التحرش من القضايا الموجودة والمسكوت عنها مما يشكل خطراً على المجتمع. وعن سبب اختيارها مروة الجابي أوضحت بأنها وجدتها فيزيولوجياً وجسدياً مناسبة لتصوير حالة الأنثى المصابة وتابعت بأنها وجدت صعوبة بالتعامل معها أثناء التصوير كونها تتعامل مع فتاة مصابة وليس مع فنانة محترفة، إلا أنها تجاوزت كل الصعوبات لإيصال رسالتها وصوتها إلى المجتمع لإحداث دور رعاية خاصة لهم.
ملده شويكاني