ثقافة

مسرحيات الحرب على سورية.. و”د. ناديا خوست”

(دفعني إلى كتابة هذه المسرحيات الوجع على سورية والغضب على ظلم الغرب، طوال الحرب وضع الغرب سورية على طاولات مؤتمراته وخرائطه ومجالسه، وأدى السياسيون الغربيون أدواراً مسرحية. ألقوا نصوصاً ملفقة، لبسوا أقنعة الغيورين على المدنيين، وهم يسلحون من يقتلهم، وعرفوا بدقة العصابات التي سلحوها. سخر السياسيون الغربيون بتلك المشاهد المسرحية من عقول البشر وعواطفهم، وصاغ الإعلام العالمي الدعاية بمهارة ماكرة.. روَّعني بعد كل هذا غياب أبحاث عميقة تنقي التراث الفقهي الملفًّق، وتنبه إلى ما دسه اليهود الصهيونيون قبل بزوغ الصهيونية لتعيد الألق إلى الجوهر: الاستناد إلى العقل ورحمة القلب).

بعد هذه المقدّمة للدكتورة ناديا خوست، التي تبدأ بها كتابها (مسرحيات الحرب على سورية) الذي نقرأ فيه أربع مسرحيات وفصولاً ومشاهد كثيرة، تأخذ المؤلفة جزءاً من المسرح الكبير، الذي وفَدَ إليه من قاموا بالأدوار من كلِّ بقاع العالم، وتقيم عليه مسرحياتها التي كانت مسرحاً مصغَّراً للواقع، صاغت حواراته بلغتها التي تضمنت أفكارهم، فكشفت المُقَنَّع، ووضَّحت اللعبة، وكشفت عن الخيوط الخفية التي تربط جميع جزئيات المسرحيات، معتمدة على ثقافة سياسية أدبية إنسانية عميقة في توثيق أحداث مسرحها الواقعي.
في المسرحية الأولى (قبل ثلاثين سنة) بمشاهدها الأحد عشر، نشاهد الطفل الذي كان قبل ثلاثين عاماً، وهو الآن شاب يعيش ما عاشته والدته، التي ربته يتيماً بسبب ما حصل من تفجير، وسرقة، وقتل، وخطف، وقطع رؤوس، وتهديم مدارس، ومحطات محروقات، وها هو يعيش اليوم  الأحداث نفسها، التي لم يتغير مفجِّرُها، ومحركها، ومخططها، ليمزق وطناً كان مثالاً لحالة العيش الواحد بين جميع أبنائه المنتمين إلى بنية مجتمعية فسيفسائية، أثرته على مدى العصور.
تجيد المؤلفة التنقل بين حاضر ما أشبهه بالأمس، وأمس ما أشبهه باليوم، فكلاهما جاء فيه غزو مسلّح، ومثقف مزوَّر، وفاسدٌ، وشيخٌ مجرم يفتي بالقتل، وكلاهما فيه المعارضة المشتتة، والموالاة الوطنية الحذرة، والمعارضة الخائنة المرتبطة بالخارج، والشقيق الخائن، والحليف المخلص، والصديق الوفي، وما يحرك كليهما، أي الماضي والحاضر، ما نبشته الحرب من النقيضين: العظمة والشر، والشهامة والنذالة، أما الإنسان المسحوق فهو.. هو.. تلك الأداة التي تدفع الضريبة الكبرى في النهاية، أكان مناضلاً يذود عن الوطن، ويقدِّم روحه فداءً له، أم قاتلاً استؤجر لصالح أصحاب المخطط من رجال دين وسياسة وثقافة وغيره.
وهنا نجد دائماً الخيوط التي تربط بين مَنْ على المسرح المجسِّد لأرض الوطن، وبين مَنْ وضعوا مخطط الشرق الأوسط الجديد، وبدؤوا ينفذونه وهم كُثُر، فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وأمريكا، وإسرائيل، وكل صهاينة العرب والعالم، علماً بأنه سمي باسم شخص واحد.. وكلهم كانوا حلفاء الشر في الأمس والحاضر، وهذا ما صار واضحاً حتى لذاك الفقير الذي يحمل ربطة الخبز، وهو أحد شخوص المسرحية: (المسألة وما فيها فساد وتدخل أجنبي، وخليجي، وزعران استؤجروا ليدمروا بلدنا).
طبعاً لا تنسى المؤلفة ذكر الاسم الصريح لشخصيات تلعب في مصير الوطن (كبرنار ليفي) الصهيوني الذي تقول رأيها فيه على لسان امرأة: (هل استولت الصهيونية على فرنسا؟!)، ويرافق قولها هذا مشهد ليفي وهو يخطب بخصوص الحرب: اليوم بنغازي أخرى، حمص عاصمة الألم السورية، تعترضه امرأة: (العمى! صهيوني ينط من أفغانستان إلى جورجيا إلى البوسنة إلى سورية)، طبعاً تتتالى أحداث المسرحية لتفضح كل ما يحدث في دوما وحمص، ولتروي كل ما يحدث من قتل وحرق وتدمير واغتصاب وسرقة معامل، وتفجير مساجد وسرقتها، وتهديم مدارس، ومشافٍ وآثار ومطارات وسجون، وإذ تشرح د. ناديا لماذا كل هذا الحقد على سورية؟! تشرح سبباً آخر من بين الأسباب الهامة هو علمانية هذا الوطن الذي أحضروا له باسم الدين، وفتاوى المشايخ، والديمقراطية، والحرية، كل شذّاذ الآفاق، مختصرين الدين الإسلامي بلحية، وجبَّة، ومسبحة، وساطور، وشعار لا إله إلا الله، كما هو واضح في مسرحية (ملجأ في الحرب) التي تجسّد تاريخاً إسلامياً راقياً عميقاً بثقافة أدبائه وشعرائه وسياسييه أيام ليلى الأخيلية ومعاوية، وحاضراً دينياً يحاولون تجسيده بما ذكرنا، وبعد كل ما فعلوه صمدت سورية بكل رموزها النقيَّة.
لا تنسى المؤلفة أية قضية حدثت على مسرح الوطن، لكأنها توثق عبر الحركة والمشهد العام، والكلمة، والحوارات، واستحضار الخيال لربط البعيد بالقريب، تماماً كما أتقنت هذا الربط والتدقيق فيما ألّفته سابقاً، حيث تمسك جميع الخيوط مهما كانت واهية أو قوية، لأن لها دورها في كل ما يحدث، كما لكل كلمة أو سطر أو مشهد أو شخص أو حركة دوره في قوة المسرحية، وفي نقل التاريخ عبر المسرح والشخوص والحركات والحوارات واللغة المدروسة، التي كانت لهجتها أحياناً ساخرة، مؤلمة، وفق المشهد الهادف الذي اقتضى عمقاً في التحليل، واختياراً دقيقاً للشخوص بأسمائهم الصريحة، وللأحداث بكل واقعيتها ودلالاتها، أليستِ المسرحيات هي مسرحيات الواقع التي ستظل من خلال مشاهدتها أو قراءتها موضحة لما حصل من تدمير للوطن بكل ما يهددهم من جزئيات، فهذا ضابط عربي يقول في أحد المشاهد: (لن نسمح بجيشٍ سلاحه روسي، وعقيدته عداوة إسرائيل)، وآخر: (إذا لم نوفق إلى تقسيم سورية سنتركها حطاماً، ونعطل دورها القومي)، يتبعه ضابط بقوله: (نوهم بأن العصابات جيش والجيش عصابة)، وهكذا تزيح المؤلفة الستارة وراء الأخرى ليرى المشاهد: أية لعبة أممية يلعبها العالم في سورية، على المسرح الكبير، وأية حرب نفسية يشنونها عبر الإعلام والغوغاء، وأية جرائم فظيعة لم يرتكبوها، فكانت النتيجة التي أرادوها على لسان ضابط من المخططين: (عندما تنكسر المُثُل المقدسة تتمزق الروح، ويبدد الإرهاب تلاحم الناس، ويمنع تجمعهم، لذلك فكل جانب في هذه الحرب يكمله جانب يواكبه: نهب صوامع الحبوب، شاحنات السكر، السوق السوداء، الغلاء، التلاعب بالأسعار، كسر العملة الوطنية، رفع سعر الدولار، اليأس من الإصلاح، نضغط على الشعب حتى ننسيه حليب أمه وصور آبائه الذين حاربوا الاستعمار)) ص48.
سلّطت المؤلفة خوست الضوء قوياً على دور رجال الدين المزيفين في هذه المسرحية، ومسرحية (ملجأ في الحرب)، عبر شيخ المسلحين، فمن خلاله أبرزت فكرهم وعلاقته بهذه الحرب، مستندة على كتبهم وتاريخهم، وفقههم منذ القديم حتّى الآن، تماماً، كما دور من سموا أنفسهم نخبة ثقافية علمانية، بينما كانت السعودية بوهابيتها ومالها، وفنادقها، ومفتيها ملاذهم، ومرشدهم في دورهم المخرب للوطن، لذلك تفصِّل المؤلفة، وتربط المقدمات بالنتائج بشكل صريح، كما جاء على لسان الراوي: (الدفاع عن الوطن ليس فقط وقت الحرب، بل بتحصين الناس والبلد والروح والوجدان، فالسياسة دون نبل أخلاقي سلطة همجية) ص76.
المسرحيات قوية بلغتها، غنية بشخوصها، كما غنى أرض الواقع، هادفة بمبناها الذي ينشر الوعي السياسي – الوطني، ويسلّط الضوء على أدوات الاستعمار، وأشكاله، وأهدافه، بدءاً من داخل الوطن، وصولاً إلى آخر نقطة في العالم. وإن كنت اكتفيت بهذه المسرحية التي يتلوها ثلاث مسرحيات أخرى هي: (ملجأ في الحرب)، و(بين الأنقاض)، و(سبايا ومسلحون)، تركتها للقارئ، فأولاً، للإيجاز الذي تقتضيه مقالة في جريدة. ثانياً لأنها كفن مسرحي بناءً، ولغة، وهدفاً، لا تختلف عن الأولى، وإن اختلفت كفكرة تسلّط الضوء على جزء هام من جزئيات هذا المسرح الكبير (سورية) التي تشهد حرباً، يؤكد كثير من الدارسين في العالم، أنها لم تحدث في التاريخ.
إن جميع المسرحيات توسم بميسم مؤلفتها التي تترك بصماتها الخاصة على ما يحمل اسمها من روايات، أو كتب سياسية، أو قصص، تحمل كل بصمات الواقع والتاريخ في وطنها، وكل الغنى الثقافي والتاريخي والسياسي عند المؤلفة التي جسَّدت، فيما كتبته الصدق والالتزام الوطني والعلمي، المفترض بمن يتطرق إلى التاريخ والتأريخ، والجرأة بنقل واقع يُرادُ تشويهه، وتزييفه، وتزويره بكل تحدٍّ من شياطين العالم، ومجرميه.
مريم خيربك