ثقافة

عنقاء الرّماد..

في الحديث عن ثقافة الرسم كفن يجعل من الأشياء أرواحاً كانت محبوسة فحركتّها الأيدي بعيداً عن التفاوت بين مستويات الرؤيا، لأن اللوّحة قد تنشئ عالماً على طريقة الشعر الذي تتدافع فيه الصوّر، بحيث تساهم في تطوير الألوان المطلوبة عند المقاربة مع الأشياء الخارجية التي لامستها تلك الألوان، بحركة فنية قد تثير الإعجاب عند المتأمل فيها، لأن الإيماءات السرّية داخل أي لوحة لا بد أن تعكس خيوطاً قد تكون محزنة أحياناً وربمّا مخيفةً، أو مفرحةً أحياناً أخرى، خاصةً إذا ما ظللّها بعض السوّاد العاتم دون حمولة الإزاحة.. لكن المطلوب في هذه الحالة هو حيادية الفنان تجاه أعماله، وهو يحوّل خيوطها الهادئة إلى استلهامات تشبه تلك البئر اليمنية المسمّاة (بالرّس) والتي ذكرت في قصص القرآن الكريم، لأن تلك البئر التي كان يحوم حولها بعض الرعاة بصحبة مواشيهم وبينهم أحد الرّعاة المهتمين بالمحبة للطبيعة التي ينتج فيها اللّذة غير المكمّلة والتي توهم الرائين بأسفلها بالطبيعة التي تتكرر فيها دورة الحياة.
وإلى جانب تلك البئر كان قوم (تبّع) الملك الحاكم آنذاك والذي رغم تدينه ودعوة من حوله منهم وهو (حنظلة بن صفوان) الذي هو الآخر تلفح يديه نار الاحتفالات الطقسية لتهزم الخرافة النائمة على أعتاب البلاد، ويعلو فأل الإبداع ولا سيّما الفن بكل أنواعه كما قيل في المصادر الدراسية التي تناولت حياته في تلك الفترة من الزمن.
وإذا كان اللّون الأزرق الذي يحمل العمق والشفافية ودلالات انتصار العالم السُّفلي حيث تموج أمواه البحار، فقد مال إليه الفنانون فيما بعد وعرفوا أن ثمة أبعاداً استشرافية محلياً وكونياً يمتلكها تلازمه، وهذا ما يجعله لوناً مقرّباً ومحبّباً إلى النفس البشرية وهو يغور في حداثة الثقافة اللوّنية المسكونة بالتحولات السرّيعة والمتلاحقة في اتجاه المسألة الإدراكية لعالم الإبداع الفني..
والقارئ لتاريخ الرّسم منذ (سبي بابل) وحتى قيامة السيّد المسيح يدرك أن الغربيين وحتى يومنا هذا ما زالوا خارج دائرة العلاقات التي يلقي بها الرسم في وجدان الأجيال الطالعة من البنى التعبيرية التي يحملها الفن الملتزم بالإنسان في أي مكانٍ وجد على خريطة عالمه المترامي، لأن الفنان الأوروبي ما زال يعيش المعادلة المادية لأنه يعالج قضاياه الفنية بالمادية البحتة، وهو في هذا السلوك يبدو أقرب إلى المعادلة العقلية أيضاً منها إلى التعبير العضوي الحساس والأشياء الخارجية التي تتكرر في بنائية اللوحة، حتى وإن توحدت فيها كل العناصر المتباعدة لتعطي فكرة ما  وتغطي مكوّنها الأصلي في جانب الإدراك العام، وتظل خيوطها الموزعة تحمل أسرار المجتمعات المغربية ذات النظرة المادية المتوافقة بين الأجزاء والوحدة الكلية لتلك الطبقات الاجتماعية التي تعيش المؤثرات الخارجية بزخارف مادية، تتكرر فيها العقول المشتركة بشكل فني مدروس.. ويحضرني في هذا السياق لوحة الشتاء الأخير لمبدعها -ليوناردو دافنشي- وهو لا شك فنان عالمي لكنه يندمج باطنياً بالمادة والروح معاً وبجواره المترادفات كعنصر هام من عناصر البناء المادي لعالمه الذي جند له أفكاره وتصوراته بما فيها الفن الذي أوصله إلى قمة الهرم بين أبناء جيله، والتجسيد الدائم للصور الحسية والإفصاح عنها بالرؤية والتأمل فيها..
ورغم ما قيل عن (دافنشي) كفنان غربي متمكن في تقنياته وهو واحد من مثقفي الغرب الذين يطمحون لأن تكون الثقافة العربية ثقافة طارئة، ويشترك في بنائها السلطة وحدها حتى لا تصل إلا إلى الديارات الموالية للغرب في كل اشتراطاته الذهنية المتقلبة.. إلا أن بعض المطلعين على فنه حتى من أبناء جلدته اعتبره فقيراً بالخيال، وعمله يقوم على الانطباعية قبل التأثر الواسع الذي ترقى إليه المخيلة في عملية الإبداع الفني.. في حين قال رواد النقد التأثري في الشرق بأن الفنان الشرقي لديه سعة آفاق أكثر ومخيلته تنطلق من التاريخ المليء بالأحداث الأسطورية، واستطاع أن يجدّد في النّسيج الأسطوري من خلال الخطوط البيضاء التي امتهنتها عنقاء الحضارات وما يشابهها كسارق النار، وصانع اللوحات التي تحتاج إليها تلك الظبية المرهقة في غابات الوجدان التي يعشقها فنانو الشرق العربي على اختلاف أقنعتهم الفنية، ومواقفهم الإنسانية تجاه القطاعين السياحي والفني على حدٍّ سواء.
وإذا كان اللون الأحمر هو الأبرز عند الصينيين كونه يمثل الفرح والحظوظ السعيدة، بل هو عندهم منهج حياة وفلسفة جمالية عمادها الذوق الرفيع الذي يحرر العقول من الخوف، وحالات الحزن التي قد ترافق المخيلات في المتناهي واللامتناهي، وقد تجنب معها الفنان عتمة السّواد التي لا تؤدي غرضاً فنيّاً في لوحاته حتى المكثفة منها واختلفوا مع الغربيين في تقنيات الألوان..
لقد جعل الصينيون من اللون الأحمر رموزاً مستقاة من التاريخ الذي يكتب حياة جديدة عبر تجليات اللون الأحمر، فمثلاً عندما يولد عندهم الطفل يلف أهله خصره بقطعة من القماش الأحمر وفي هذا دلالة على الفأل السعيد الذي يصحب ولادة ذلك الطفل. أما كبار السّن عندهم فيرتدون اللون الأحمر في أعياد الميلاد حتى أن العريس حين يتقدم من عروسه يهديها بعض الحبوب (الملبّس الأحمر) وهي بالمقابل تقدم لعريسها (سكرّة صغيرة) ولكن بلون أحمر أيضاً. ولا داعي للطلاق مهما طالت حياتهما من أحداث أو خلافات عائلية.
محي الدين محمد