ثقافة

“زيتون” عرض مسرحي.. جداً

عروض المسرح القومي عموماً، هي من العروض المسرحية التي ينتظرها بشكل موسمي جمهور المسرح السوري، لما لها من سمعة طيبة، ووعد مسبق بأن ما سيتم عرضه على الخشبة، هو “اشتغالات” مسرحية محترفة، ممتعة، وفيها أفعال مسرحية صرفة، لا مكان يناسبها، ولا يمكن أن تحقق سمو المسرح إلّا على خشبته، خصوصاً من عدة أسماء مسرحية، لا تزال تؤمن بالمسرح وبأهله وبرسالته، ومنهم المخرج المسرحي “مأمون الخطيب” الذي يطل هذا الموسم أيضاً على جمهوره  بعرض “زيتون” عن نص لـ “طارق عدوان”، إنتاج وزارة الثقافة- مديرية المسارح والموسيقا.

بالتأكيد ترفع القبعة لكل من لا يزال يعمل في المسرح السوري المهدور حقه، وبشكل لا يوصف، قياساً بفنون أخرى في البلد، يبذخ عليها بعشرات الملايين الضائعة، وهي ليست أفضل حالاً إن كان في التأثير، أو في المتعة، أو في المضمون والشكل، من حال مسرحنا البائس بشكل عام، فأهل المسرح عندنا معاناتهم الكبيرة معروفة، وشكراً لهم حقاً أنهم مازالوا مؤمنين بقيمة المسرح، ولو “ببلاش” في الحياة العامة، وخاصة في زمن الحرب، حيث يمكن المتاجرة بكل أنواع الفنون، وهذا عصي نوعاً ما على المسرح عند أهله الحقيقيين، وكان للجملة التي قالتها السيدة “رنا جمول” في جوابها عن سؤالنا: لماذا المسرح دون السينما والتلفزيون؟قالت:”لأنه أنظف”، ما يكفي من الإقناع لعدم سؤالها مرة أخرى عن الموضوع، وبالتأكيد فنانة مخضرمة كـ “جمول”، لن تقول رأياً اعتباطياً في هذا، ولا ريب أنه حصيلة تجربة مريرة مع كل من الدراما السينمائية والتلفزيونية!.
إلّا أن هذا لا يعفينا من تقييم نقدي للعرض المسرحي “زيتون”  الذي افتتح عروض المسرح القومي لهذا الموسم، إن كان على صعيد الشكل، أو المضمون ومفرداتهما، فالعرض جاء بشكل عام ضمن السياق الذي اشتغل عليه “مأمون” للمرة الثالثة بعد “نبض” و”هدنة” في تقديمه للهم العام بتشعباته وتقاطعاته المتغيرة، وبشكل سريع جداً، وأيضاً لرصده للعديد من هواجس الشارع السوري وتقديمها بشكلها “البيور” النقي الصافي ودون رتوش، وهو بالتأكيد – أي عرض زيتون- حقق مرة أخرى معادلة الجمهور هو الحكم، فالراهن اليومي هو حالة تشد الجميع، خصوصاً في الحالة التي قدّمها “زيتون”، والتي تستعرض الآراء، أو المواقف شبه اليومية التي يرددها السوريون -على الأقل بينهم وبين أنفسهم- أكثر من مرة في اليوم، في ظل الظروف الصعبة القائمة منذ سنوات عدة في البلاد بسبب الحرب، لماذا لم أهاجر؟ لماذا أهاجر؟ ومن أنا الآن، وماذا أريد، وأي وطن أريد؟، خصوصاً بعد هذا التدهور السريع لمفردات العقد الأخلاقي الاجتماعي بين الناس، وتفشي الفساد بشكل لا يوصف، وتغلغله في مختلف مفاصل الحياة اليومية، وما تركه، ويتركه من أثر خطير على حياة السوريين اليومية وفي كل تفاصيلها، جعل الكثير منهم يفكر بأنه لا حياة مفيدة، أو مقنعة تستحق البقاء هنا، وما من أمل بقيامة سريعة من وحل الحرب، فالمصير صار شخصياً الآن ولم يعد مرتبطاً بالآخر، واحدة من الطروحات الخطيرة أو وجهات النظر التي ستتشابك مع نقيضها تماماً في “زيتون”، لكنها هنا ستحضر بقوة كوجهة نظر قائمة ومبررة إنسانياً لا يمكن نكرانها.
“زيتون” كعرض مسرحي جاء مستوفياً كل الشروط الكافية ليقول المتفرج إنه حضر عرضاً مسرحياً جيداً، هو عرض سلس، يسير دون ذروات درامية مركبة أو مختلفة، وينتهي أيضاً نهاية كلاسيكية تمثل بالضرورة رأي الكاتب والمخرج،أما على المستوى الشخصي وطموحي بفرجة مسرحية تحقق المتعة المسرحية بمعناها العام، فقد جاء “زيتون” بعيداً عن تحقيق طموحي كمتفرج ملّ التلفاز، بأن أشاهد عرضاً مسرحياً بما تحمله الكلمة من معنى، لا سهرة تلفزيونية خالية من “دسم” المسرح وأشغاله الرفيعة، خصوصاً لمخرج مسرحي مخضرم، حدث وأمتع جمهوره طويلاً بما قدم، فلأجل هذا أتيت إلى المسرح، وهذا يعني أنني سأكون على موعد مع عرض مسرحي محترف، فيه أشغال مسرحية مفاجئة ومدهشة، أنتظر خطاباً مختلفاً وطرحاً طازجاً راهناً، خصوصاً في حال كان العرض يتكئ اتكاء ثقيلاً على الواقع العام الدائر والمتغير وبشكل يومي في البلاد، كما “زيتون”! الذي ذهب ليقدم ثلاث وجهات نظر مختلفة، سادت منذ عدة سنوات على ألسنة الناس، حول ما جرى وما يجري في البلاد إن كان في الحرب أو في انعكاسها على أحوال البلاد والعباد، وذلك من خلال حكايته لقصة عائلة تجتمع في بيتها القروي بمناسبة عيد ميلاد التوءم “عليا” أدت دورها القديرة “رنا جمول” و”أمل” – أدت دورها وئام الخوص- ليلتم شمل العائلة بحضور الأخوين “مجد” – أدى دوره إبراهيم عيسى-والأخ الأكبر -أدى دوره الفنان غسان الدبس- وبحضور كل من “صبا”– أدت دورها مريانا معلولي- والجار المغترب في السويد الذي التحق صدفة بالاحتفال-أدى دوره الفنان المتألق مسرحياً “مازن عباس”-،إلا أن الاحتفال وعلى طريقة “بريشت” في مسرحية “العرس” سيتحول إلى مكاشفات وسجالات فكرية واجتماعية ووطنية حادة بين أفراد العائلة الواحدة وضيفيها، في إشارة إلى بعض نماذج من شرائح السوريين، “علياء وأخوها الأكبر” أو الشريحة التي تعتقد أن البلاد انتهت ولا قائمة لها، ويجب عليها أن تقطع كل صلة لها بها، وذاك في بيعها لأرضها -هنا- ومغادرتها البلد، ووجهة النظر المقابلة” مجد- أمل-صبا” الشريحة التي تمسكت بالزيتون ورمزيته الوطنية والإنسانية، وبالأرض وبيت الأجداد، مصرة على أنه سيبقى، لأن الوطن سينتصر مهما كانت الظروف صعبة، أيضاً وجهة نظر تجار الحروب الذين لا مشكلة لهم سواء ذهبت البلاد أم بقيت مادامت أشغالهم ومصالحهم مستمرة “الجار المغترب” لتنتصر ولو بشكل مبدئي نظرية التمسك بالوطن والهوية، وهذا جميل، القصة متكاملة، والطرح واضح، لكن المشكلة أن هذا الطرح عمومي جداً ومباشر، وكان بالإمكان تقديمه ربما منذ ثلاث أو أربع سنوات، أما الآن فالحكاية صارت في مكان آخر تماماً، ليبدو الحوار الدائر بين الشخصيات حول هذه النقطة وكأنه ترجيع صدى لنقاشات طويلة بعدة أنواع ملّها الناس، دارت رحاها منذ أربع سنوات على صفحات التواصل الاجتماعي، دون الذهاب للغوص إلى أبعد من هذا في التوصيف والتوثيق لمشكلة إنسانية، واجتماعية، وفكرية، وفلسفية، لم يعد فيها السؤال: “أنبقى أم نذهب”؟!.. الآن قضية السوريين وجودية أكثر من هذا بكثير، طالما أن العرض اختار أن يكون شاهداً تاريخياً على ما يجري أيضاً، عدا عن المقولة الباهتة نوعاً ما، جاء العرض خالياً كما أسلفنا من الإبهار المسرحي القائم على تحقيق معادلة بصرية متناغمة مع الحكاية، وهي واحدة من الدعائم التي تشارك في نجاح العرض، هذه المعادلة البصرية والحسية التي يحققها تواؤم عناصر السينوغرافيا فيما بينها، لم تكن موجودة بثقلها الحسي والمادي المنضبط والمنسجم مع بقية العناصر الأخرى، الخشبة بدت كبيرة على حركة الممثّلين الذين اضطروا إلى القفز والركض ليغطوا المساحة الفارغة من الخشبة، والتي هي هنا “حديقة البيت”، الديكور الغرائبي للمربعات المعلقة في سقف المسرح، والتي من المفترض أن تكون أشجاراً أو ما شابه، والإضاءة التي ذهبت لتكون رمزية، متغيرة مع تغير المتحدث من الشخصيات، وهذا شتت ذهن المتلقي أحياناً، أيضاً الموسيقا مألوفة وجاءت كأنها ليست من جنس العرض وروحه، بقدر ما جاءت كإضافة جمالية سمعية لآلة الكمان لا أكثر.
العرض المسرحي “زيتون” حقق لا ريب ما يبرره كعمل مسرحي، لكنه جاء جامداً، بلا روح، رغم محاولة بث الروح فيه بالأغاني الفيروزية المنوعة التي أدتها الفنانة “معلولي”، وبالمفارقات الكوميدية نوعاً ما التي لم تكن أيضاً منسجمة مع السياق العام لـ “زيتون”، وهذه عموماً مشكلة النص الذي جاء وكأنه “مفصل” على المسطرة المسرحية كما يقال، بلا روح مغامرة في الأسلوب، والروي، وحتى الجرأة المسرحية المشغول عليها بالحنكة التي يحتملها المسرح أكثر من بقية الفنون، وبسيناريو مكتوب وكأنه معادلة رياضية نوعاً ما، ما انعكس على الحالة الإخراجية بشكل عام، وعلى أداء الممثّلين الذين اجتهدوا لإعطاء الشخصيات المكتوبة حياة نابضة وحقيقية، ولكن، كلاً على حدة!.

تمّام علي بركات