ثقافة

أديب مخزوم: الأعمال الفنية لا تزال قليلة قياساً إلى ما حدث

أدهشت ملامحه النقدية بما تمتلك من خصوصية وعوالم معقدة الفنان العالمي الراحل عمر حمدي “مالفا” حين قال عنه: “أديب مخزوم، الوهلة الأولى، المفاجأة، الاسم الذي شدني ثانية بالعودة إلى مفردات الكتابة بالعربية.. ناقد يتمتع بقراءة واسعة وجديدة”.. من هنا كان من النقاد القلائل الذين عملوا على رصد تيارات الفن من خلال كتابه الموسوعي “تيارات الحداثة في التشكيل السوري” وهو من الكتب القليلة التي سدّت ثغرة كبيرة في مكتبتنا الوثائقية الفنية، لذلك سرقته الكتابة عن الرسم والألوان مدة ثلاثين عاماً، إلا أن قواربه الورقية وياسمين دمشق استطاعا أن يعيداه للرسم في صيف العام الماضي من خلال معرضه الذي حمل عنوان: “تأويلات ذاتية لقواربي الورقية والياسمين” وسرعان ما اختتم العام نفسه بمعرض آخر أقيم في صالة الرواق بمشاركة الفنان أيمن فضة رضوان.

< بين معرضك في صيف العام الماضي ومعرضك المشترك في نهايته بماذا اختلف أديب مخزوم الفنان؟.

<< معرضي الأخير الذي أقمته في صالة الرواق العربي إلى جانب الفنان أيمن رضوان تضمن 25 لوحة جديدة عرضتُها لأول مرة وشكلت امتداداً لمعرضي الفردي في دار الأوبرا (صيف 2016) حيث بدت الأعمال بمثابة مذكرات شخصية لي، وقد اعتمدت التصنيف التراتبي المكاني والزماني، فالمجموعة الأولى من اللوحات جسدت فيها البحر والقوارب الورقية التي ترمز إلى طفولتي على امتداد الشاطئ الرملي في مدينتي طرطوس، وفي المجموعة الثانية تابعتُ هاجس تجسيد الياسمين الدمشقي الذي يعبّر عن مدى حميمية إقامتي في مدينة الياسمين دمشق، والمجموعة الثالثة واصلتُ فيها تجسيد المرأة العازفة على بعض الآلات الموسيقية، وهذا الموضوع يرتبط بعلاقتي المزمنة مع الموسيقا والغناء الراقي، وبذلك حققت مقولة لبول كلي: “من يرسم يجب أن يمتزج بالموسيقا”.. ونصل إلى المجموعة الرابعة من اللوحات والتي كرستْ علاقتي الوطيدة بموضوع المرأة الموجودة في مجمل لوحات المجموعات الأربع، فهي موجودة مع قواربي الورقية ومع الياسمين ومع آلتها الموسيقية وتظهر في لوحاتي منفردة على خلفية لونية تجريدية غنائية، وأيضاً موجودة في مجمل لوحاتي القديمة.. ومع الناحية التشكيلية والتقنية فإن مجمل لوحاتي مرسومة بالأكريليك والزيت على الكانفاس وبصياغة فنية حديثة تدمج التعبيرية بالتجريدية، حيث يطل الاختصار والتداخل بين العناصر المرسومة والخلفيات اللونية الانفعالية، وتظهر حالات الانتقال بين التصريح والتلميح، أو بين الوضوح والغياب في خطوات البحث عن أسلوب فني خاص، مع الإشارة إلى أن كل الآراء التي تناولت معرضي الفردي والمشترك كانت إيجابية.

الفن التشكيلي لم يواكب الحرب

< كيف تجد واقع الفن التشكيلي خلال فترة الحرب؟.

<< لا نزال ننتظر خروج المزيد من الأعمال الفنية الهامة التي تناولت الأحداث الدامية من المحترَفات إلى صالات العرض، واللافت أن المواضيع والأجواء التي كنا نراها قبل الأحداث المؤلمة في المعرض السنوي العام (الخريف والربيع) لا تزال هي نفسها المسيطرة على تخيلات وتوجهات فنانينا رغم وجود بعض الحالات الاستثنائية القليلة، وننتظر أن يظهر أثر النكبة السورية بقوة وباتساع أكبر في المرحلة القادمة، ليس في النتاج التشكيلي الأكثر حداثة فحسب وإنما في واقعية ما بعد الحرب، وبالطبع في الواقعية الحديثة والمتجددة والقادرة على كسر أفقية وسكونية الصياغة التسجيلية، وعلى هذا فالعمل الفني الحقيقي والقوي والمتأثر بالأيام المتوترة هو العمل الفني الجيد أكان واقعياً أم تجريدياً، حتى أن التكثيف التعبيري في أقصى حالاته سيقف عاجزاً عن التعبير، وإن كانت الصور الميدانية المأساوية التي سجلتها كاميرات التلفزيون هي الأقدر على التعبير عن مرارة الحقيقة ويوميات الموت، وقد ظهرت بعض المحاولات وجاءت كخطوة للتعبير عن فجائعية المرحلة بطريقة إعلانية وتسجيلية وافتعالية، مع أن المطلوب من الفنان الحقيقي في مثل هذه الحالة التعبير بلغة تشكيلية خالصة تصل حدود التجريدية أحياناً رغم بعد هذه اللغة عن إطار الذوق الفني العام.. وعلى صعيد التجارب والأساليب والأسماء وطريقة تناول البعض لفكرة الحرب كان من الطبيعي ألا تأتي اللغة النقدية والتحليلية الموازية لتلك الأعمال المتسرعة لبعد اللغة التحليلية عن المخاطبة الجماهيرية العامة، فالمسافة شاسعة جداً بين رؤية اللون والتكوين والخط والتقنية والأسلوب من وجهة نظر تشكيلية بحتة، وبين رؤية الرمز أو الدلالة التي تبرزها اللوحة المرتبطة بأيام وفصول الإرهاب والقتل والخراب والرعب، وهذا يعني أن الأعمال الفنية التي واكبت الأحداث بلغة حديثة لا تزال قليلة، وقد تكون في المحترَفات ولم تخرج بعد إلى دائرة الضوء النقدي والإعلامي، ومهما تعددت وتشعبت وتنوعت أساليب ووسائل التعبير في الأعمال الفنية والأدبية التي ستتناول الحرب المدمرة على المجتمع السوري فهي ستبقى قاصرة وعاجزة لأن النكبة السورية فوق مستوى التعبير بالصور والكلمات والخطوط والألوان والكتل والرموز وكل وسائل التعبير السمعية والبصرية.. وهكذا نرى أن الاتجاه الفني المرتبط بالحدث بمظاهر الإرهاب لم يظهر بعد في معارضنا إلا بنسب قليلة قياساً إلى هول ما حدث، حتى أن بعض الأعمال التي قاربت الحدث أو تداخلت معه لم تصل إلى ضفاف حدود الصياغة التشكيلية المتقدمة التي يمكن من خلالها أن تبدأ صياغة فنية خاصة ومميزة ومنتمية إلى قلق الجماعة ووجعها.

< وماذا أفرزت هذه الحرب برأيك على صعيد الفن التشيكيلي؟.

<< أدت الحرب إلى شلل في صالات العرض الخاصة، حيث أُغلق معظمها منذ بداية الأحداث، ورغم ذلك نجد حراكاً يومياً في الصالات الأخرى، وهذه الحركة تعني أن الحياة الثقافية مستمرة رغم كل الويلات والأهوال، وفي هذا السياق يمكننا القول إن أفضل الأعمال التي عبّرت عن الأحداث هي التي تجاوزت الصياغة الواقعية والتسجيلية ووصلت إلى ضفاف أو حدود الصياغة الحديثة بتوجهاتها المختلفة، إلا أن هذه النظرة صحيحة في حدود نسبية وليست مطلقة لأن هناك لوحات وجداريات واقعية تبدو أكثر قدرة على إبراز مشاعر القلق والهلع والترقب في تعابير العيون وملامح الوجوه، وتمتلك القدرة على نقل معاناة الوجع والألم العام بوضوح جارح وتام، وقد أفرزت الحرب إلى جانب ذلك أسماء كثيرة تفتقر إلى أدنى حدود الموهبة، وهذه الأسماء دخلت المعارض مستفيدة إلى حد بعيد من غياب الأسماء الهامة بسبب الهجرة خارج القطر أو بسبب صعوبة الوصول إلى العاصمة.

< كفنان وناقد تشكيلي سوري ماذا غيرت فيك الحرب؟.

<< تركت الحرب تأثيرات مباشرة وواضحة على لوحاتي وكتاباتي التحليلية، حتى أن معرضي الأول حمل عنوان “تأويلات ذاتية لقواربي الورقية ولياسمين الشام” أما معرضي المشترك فقد أقيم تحت عنوان “ثقافتنا الحديثة منطلق الانبعاث السوري الجديد” وفي مقالاتي النقدية كنتُ أبحث عن أثر الأحداث الدامية في أعمال فنانينا لعدم قدرتي على القفز فوق الجراح والخراب والدمار، ووجود المرأة في لوحة يعني بالنسبة لي مواجهة البشاعة بالجمال، فكيف إذا كانت هذه المرأة تحتضن الياسمين وتعبّر عن مدينة الياسمين؟.

الانحياز للنقد

< انحيازك لفترة طويلة للنقد التشكيلي ماذا أضاف لك كفنان؟.

<< متابعتي اليومية وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً لمعارض الفنانين والكتابة عنها أغنت ذاكرتي البصرية ووضعتني أمام أرشيف ورقيّ غنيّ ومشاهداتي اليومية لتراث الفن التشكيلي المحلي والعربي والعالمي، والكتابة عن بعض جوانبه علمني كيف أكتشف الصح من الخطأ في لوحتي، وكيف أوظف تقنيات الفن الحديث في لوحاتي، وهذا لا يعني أنني دخلتُ مجال إنتاج اللوحة وعرضها من باب النقد وإنما العكس هو الصحيح، فالنقد سرقني على مدى أكثر من ثلاثين عاماً من الرسم واللون، حيث كنتُ أشارك بالمعارض في طرطوس من أيام حداثتي، وكنتُ أنجز مجلات الحائط المدرسية منذ الصفوف الابتدائية.

< كيف تجد واقع النقد التشكيلي السوري؟.

<< لا نستطيع تجاهل دور النقد، فلولا الصحافة التشكيلية لكنا في صحراء ثقافية، ومن الأوائل تعلمنا أبجدية الكتابة النقدية التحليلية البعيدة كل البعد عن لغة الأدب.. كان عندنا الناقد والباحث والإعلامي الراحل صلاح الدين محمد وهو الذي اكتشفني ووجَّهني ونشر لي أول مقالة نقدية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ومن جيله يبرز النحات والناقد د.محمود شاهين الذي دعاني للكتابة في مجلة “الحياة التشكيلية” ونشر لي دراسات مطولة خلال فترة وجوده، ومن الجيل اللاحق يبرز الناقد والإعلامي سعد القاسم رئيس تحرير مجلة “الحياة التشكيلية” الحالي الذي طلب مني أيضاً الاستمرار في الكتابة في المجلة بعد أن بقيتْ ولعقود حكراً على أشخاص، بعضهم لا يمت إلى النقد بصلة، كما يوجد عندنا الفنان والناقد أنور الرحبي الذي يمتلك خبرة طويلة في مجال النقد التشكيلي وله عدة إصدارات في هذا المجال، ولا نستطيع تجاهل أسماء كعصام درويش، ومن الجيل السابق يبرز أيضاً أسعد عرابي الذي يتمتع بحساسية بصرية عالية ونادرة، وغيرهم.

أمينة عباس