ثقافةصحيفة البعث

“فارس وتخوم”.. دراسات نقدية وشهادات في تجربة توفيق أحمد الشعرية

نبوغ محمد أسعد

صدرت الطبعة الثالثة من كتاب “فارس وتخوم” للشاعر توفيق أحمد، مزيدة ومعدلة، ومتناولة دراسات نقدية شاملة وآراء لأدباء ونقاد من كلّ بلدان العالم العربي، واختلفت في رؤاها وبحوثها وتطلعاتها على كل نصّ شعري من مجموعات الشاعر منذ الثمانينيات وحتى يومنا هذا، واجتمعت الآراء لتؤكد شاعرية الشاعر وإبداعه وثقافته التي اكتسبها منذ سنوات خلت، وأكدت ما يمتلكه من قدرات قلّ نظيرها في عالم الأدب الشعري خاصة، وقد تناول كلّ ناقد مادته وفق ما أرادت له ذائقته الانتقاء من صور وجماليات ودلالات وتخيلات كان لها الأثر العميق في ولادة القصيدة المطعّمة بالأصالة والانتماء لوطنه وشعبه وحبه لتلك الأرض التي أثرت به أيما تأثير، لتنجب هذه النصوص بعد مخاض سنين ودواوين شعر معتقة بنبيذ الأرض وسلافة الروح وعمق المشاعر لترفرف بأجنحة من نور وصل إلى أنحاء العالم العربي، ونال حب القارئ الشغوف بالشعر الأصيل، فنال هذه المكانة ولقي هذا الاهتمام النقدي الذي حظي به من فحول النقد في الدول العربية التي تحمل على عاتقها نشر الثقافة والأدب والعلوم المتوارثة من جيل إلى آخر ليبقى الشعر الرائد الأول، لأنه رسالتنا التي حملناها منذ عصر الجاهلية إلى اليوم ولأنه عنوان حضارتنا العربية مهما حاول “المفبركون” أن يقتصوا منه وإبعاده عن مساره الصحيح.

‏وأعلم أنني مهما حاولت الكتابة عن هذا الكتاب فلن أوفيه حقه، فهو موسوعة شعرية أدبية متكاملة تستحق كل ما كتب عنها، وقد اخترت ما تيسّر لي من مقتطفات نقدية لبعض الذين كان لهم شرف المشاركة في تجارب الشاعر توفيق أحمد.

‏وفي قراءته التي جاءت تحت عنوان “سنتي النثر وفتواي الشعر” قال الكاتب التونسي حاتم الفطناس: “في شعره احتفاء بالرموز من دون تكلف أو إسقاط أو اعتساف يتخلق الرمز في كون النص مستلهماً للوجود الجديد، وجوده داخل النص لغوياً في حركة النبيذ والجذب عصيّة آسرة، تجعله ينهض بمجموعة من الوظائف الجمالية والإيحائية والمعرفية والثقافية، وقد ينتج الرمز من دون سابق وجود ليسمو به وينصبه بين الرموز المعترف بها، وهي الآلية التي قد تنطبق على فكرة أو حالة عندما يتسامى بالجزئي، بالعارض، بالذاتي إلى مرتبة الكلي، والجوهري، والموضوعي لتكون قانوناً سارياً في كل زمان ومكان”.

وأورد الشاعر العراقي حربي محسن عبد الله: “هذا الشاعر المتجول في غابات العشق العذراء يغني ألماً، لماذا يغني الألم ولماذا يكاد من آلامه يطق؟ لأنها نأت عن روحها دمشق، فروحها تبعث في عشاقها طاقة للبقاء وحبّاً لها لا يكاد ينفك على مر الأيام، وأن ما وجده من الخصوبة والثراء بين تراكيب لغوية قديمة ومحدثة بين ثنايا القصيدة العمودية وجنبات التفعيلة ومدارات الشعر المنثور تؤكد حجم ذخيرة الشاعر وثراءه اللغوي”.

فيما رأى الكاتب السعودي حميد الشامي في دراسته “المضمر الأنثروبيولوجي” أن المضمر في أعمال توفيق أحمد هو مصاهرة الإنسان بالطبيعة، إنه المضمر الذي  يجعل الإنسان يهتدي إليها، نامياً ومتطوراً ومرتقياً إلى التحضر وملقياً وراءه كلّ ما يعيق طبيعته وتحضّره من أشكال التوحش والبداوة، فالطبيعة جسّدت وحدة عضوية في بنية الشاعر، لذلك تأتي القصيدة غير تابعة السائد والتقليدي بل تنحاز إلى التوليد وتكاثر الصور عبر تشكيل المعاني.

وحول المعمار الفني في تجربة أحمد أكد الكاتب الأردني راشد عيسى أن شعره منتم إلى ينابيع أصيلة، يقدم رؤياه التمردية بقالب الشعر العمودي وهو شكل من أشكال الشعر القديم، ما يؤكد صلة الشاعر بأرومة موسيقا الشعر العربي لتصبح هذه الصلة ميزة فنية في شعره، فالقصائد العمودية هنا لها من قديمها البنية الشكلية ولها من حداثتها ما أعدّه سيماءات جمالية تبعث دماً إبداعياً دفاقاً في روح القصيدة.

أمّا الشاعر الفلسطيني محمود حامد فرأى أن القصيدة عند توفيق أحمد تتجه صعوداً باتجاه الحلم والوجد وشفافية البوح، ومن ناحية أخرى هي الهبوب العاصف الذي يجتاحنا بضراوة وعذوبة ونداوة، وهي في ذلك الشعر الذي يقتحم قارئه بروعة معناه الجميل ويمرّ في القلب كتلك الرعشة التي تنبض في الروح والشرايين، ثم يغدو فضاء رحباً للروح التي ترث ذلك المغنى الجميل.

وفي دراسته لمجموعة الشّاعر “اكسر الوقت وامش”، رأى الدكتور عبد العزيز السيد أحمد من السودان أن الشاعر ولد نسراً ضاقت به الأرض على رحابتها واتساع أطرافها وبعد آفاقها، ولا أبعد من مدى الشعر.. الفن، الذي يحمله الخيال طائفاً ما وراء الآفاق والحدود، ولا يجد نفسه في حالة اندهاش، لأن الشاعر يتقمّص حالة “التنسور والنسورية” أو يتطلع بحذق وإصرار لإلقاء نظرة سريعة جامحة على المستقبل، الزمن الذي لم يأت بعد بفضولية يريد أن يعرف ما يخبؤه الزمن، اتعاظاً بما لاقاه في الماضي، وهذا التنسور في النظر حالة تعتري الشاعر الحقيقي حينما يتوجّه صوت الشعر إلى الذرا والقمم لالتقاط النسورية وتحقيق النظرة الشاملة والجامعة للتواشج مع الطبيعة والإنسان.

وثمّة رأي للشاعر الفلسطيني الراحل خالد أبو خالد عن ميزة أخرى لشعر توفيق أحمد وهو الصفاء اللغوي الذي يعطيه للقصيدة لتنساب اللغة كانسياب الماء على حجر أملس، وهذا الصفاء يقودنا إلى صفاء أكثر عمقاً وهو الصفاء الداخلي الذي تنبع منه شرارة القصيدة التي تقف بثبات في ساحة الشعر السوري الحديث كصوت رقراق وعذب يدخل إلى وجداننا من دون جواز مرور لما تمتلكه من مؤثرات صوتية وانسيابات لغوية وتناغم موضوعي، وما هذه العوامل إلا طريق التألق الشعري وتأنقه.

ويجمع الكتاب الذي يقع في ٥٢٦ صفحة من القطع الكبير، دراسات ليست بالقليلة لعدد كبير أيضاً من الأدباء السوريين الذين تناولوا منه باقات فنية شعرية مختلفة الألوان والأشكال، وأدلوا بآرائهم المهمّة كلّ حسب ذائقته المعرفية وتطلعاته الوجدانية، حتى أتوا على كل نصوص مجموعات الشاعر وخلاصة تجاربه خلال مسيرة صاخبة أكسبته كثيراً من الثقافة والمعرفة وروّضت نفسه الخلاقة وعاطفته على حب الأرض والإنسان والتمسّك بعروبته والجذور على الرغم من المنغصات التي زودته بالعلم والاتساع والتطلع في رؤاه للمستقبل الغامض، أيضاً أجمعت الآراء على أن القصيدة النثرية أو التفعيلة أو ما أتت على البحور الخليلية لا تختلف في جمالياتها التعبيرية والموضوعية التي تنضح بأحاسيس شاعرنا المتدفقة غضباً تارة، و”امتعاظاً” تارة أخرى، وتمرداً واندفاعاً، وصولاً إلى الشجن والحب الذي يبقى محور الشاعر في توليف قصيدته الجامحة تمرداً وكبرياء.

يُذكر أن “فارس وتخوم” من إعداد وتنسيق الأديب مرهف زينو والناقد عمر جمعة وأعاد تصنيفها الناقد الدكتور هايل محمد الطالب والشاعر أوس أحمد أسعد لتصبح مزيدة ومعدلة على طبعات سبقتها.