ثقافة

أشعة الشمس لا ترجع إليها

إنه الاجتياح  اللذيذ مع “روعة خيشي” كلمة مباغتة وصادمة كحد أقصى  للتعبير عن وهلة خاصة من وهلة الأحلام الطافحة  بالأسئلة، “روعة خيشي” فنانة تشكيلية سورية من حلب الضاربة في جذور التشابك البصري والسمعي، الرائحة المعتقة بألف نكهة، ومذاق اللوحة البدء.. اللون الأول حكمة أولى، علّمتها التواصل مع مفرداتها، الخطوط شفافة تشير، ولا تفصح أحياناً، وأحياناً تالية شديدة الإشارة إلى مضامينها، والتكوين حقيقي، ويشبه الذاكرة، لكنه ليس مؤكداً، والتفاصيل المرمية على هامش المشهد يقظة ذاكرة، ومتسع جريان السواقي الطفلة التي لا تشيخ.

في لوحة “هذيان عاشق” منحنيات الخطوط المتشابكة، أعطت ألوانها، حكاية الخطوات المتقاربة والمتناوبة، كتناوب قلوب العشاق وأصواتهم، التي تلتقطها شفافية روعة، وتحيلها إلى مصهر الذائقة، وهذه العلاقة بين الفنانة واللوحة تعزز حضوراً حميماً، يتبدى في تجربة روعة، هاجس احتشاد اللوحة بالعناصر المتناقضة، وهاجس آخر يصوغه العقل المحتكم إلى القناعة الفنية، والحس المحترق بلهيب المزاج، ويلاحظ هاجس إضافي، يصوغه شغف فني باللون الأصفر الضارب إلى الترابي أو القرميدي أحياناً أخرى، والتكوينات الجسدية تشكّل لديها شغفاً بالامتداد والأصوات والملامح، كحكاية عفوية وإنسانية جداً، تتمتع بخصوصية التجربة، يتصاعد الارتباط تواصلياً، ويتأصل لتصير اللاأشكال مفردات قائمة، وفناً خالصاً يشع من خلال اللون والذاكرة.

لوحة “وأنا كعصف مأكول” تشيخ الذاكرة حين تتوقف عن إرسال لهفتها، اللوحة عند روعة هي الفرق بين ما تشاهده العين الراصدة، وما ترسمه، أو ما تحفظ ذاكرتها البصرية من استذكار الكل عبر الجزء أو استعادته، ويمكن أن نعتبر هذه اللوحات مستمدة من المدرسة السريالية في بعض مفاصلها، وكأن الفنانة تعيد رسم اللوحة الواحدة عدة مرات حتى تصل إلى تعبير ووعي مخزون بالذاكرة، أما عن استخدامها اللوني المتراوح، كما أسلفنا بين الشفاف، والأصفر المخضر، والأزرق الموحي، والأحمر المتدفق، يشير إلى الحنين الدائم إلى أماكن غابت عنها، ولم تغادر ذاكرتها، وهي المعلن الأول والأخير لاشتغالاتها.

في اللوحة المعنونة بـ “يا أنا الذي..أنا” اللحظة تولّد الصمت، وسطح اللوحة يشعل الأسئلة، لأن وجودها لغة في حد ذاته، تنسيق وضوء يشعرك بالتجسيد العبثي، اختلط فيها الإبداع بالإتقان، وتداخلت مساحات الظل والنور لتضفي على اللوحة لوناً قريباً من الروح، ولمسة فن متجددة مغايرة عن ما نألفه من حوارات تشكيلية، بل اجترعت لغة بصرية جديرة بالدهشة واللهفة والغواية والضوء، تحمل الروح إلى متنفسها الفسيح، رغم العدم الفظيع الذي تعلن عنه لغة التدمير والفظاعة والخراب حولنا، بحيث يتعمق هنا أكثر شرط تورط العمل الفني بالعناصر المشغولة داخله.

في لوحة “هبني صوتاً” شوق يتسوّل أحفاده بالتوقيت العالمي الحديث في حوار فعال مع الفراغات، والبصيرة لا تنتظر روعة إلّا الانتشاء بالتشكيل دعماً لتواصلها مع هيولى اللون، واقتحامها المتواصل لبياض الرقعة. مفعمة بدعوة من الفنانة للمتلقي المتأمل، الفاهم والمترقب لروح التشكيل ومضمونه، حيث عملية الإنجاز، لا تستمد مدلولها من غير مضمونها (هيغل يعتبر الجمال الفني أهم من الجمال الطبيعي، لأنه خارج الوعي والبصر الإنسانيين، لا وجود للجمال الطبيعي، آلاف الأزهار تتفتح، وتموت في الغابات المطرية، وإذا لم تقع تحت بصر الإنسان، فلا أحد يهتم لها تماماً، وحده الإنسان هو من يعطي مضموناً جمالياً لكل ما حوله من طبيعة)، والمضمون يسري بليونة ورشاقة وامتلاء حسي، تتماسك حبيبات ضوئه مكونة أنسجة اللون، فيشكل في انسجامه لوحة السحر، إذ نجد الخطوط والأطراف والمنحنيات انسيابية ورشيقة كتناسق مدروس قريب من الواقعي، لكن ليس صورة عنه.. ذلك التداخل والتشابك يوحي بمعنى تجريدي، وظيفته إغناء الحركة والمساحة اللونية بانفعالات عالية المستوى، كونه نتاجاً حراً لتشكيل يولد في فضاء المخيلة أكثر قابلية، وأسهل إدراكا،ً وقدرة على الفهم، ما عاد يكتفي بالمعالم التقريبية، بل يلح على نوع من التناغم المشبع بمضمون الوحي تبث الفنانة  ذاتها خلاله في أكثر من لون وأسلوب، لتقدّم مضامينها عبر لوحات ونماذج تستنهض نبض الحياة صيغاً وتشكيلات متنوعة كحاملة لرؤى مرتبطة بالإنساني شكلاً ومضموناً. وجاءت لوحة “ماتبقى” مضيئة بضوء منسجم عند فاصلة بين التواجد والرحيل، الوجود واللاوجود. يسيّرها الحنين إلى ما يحس ولا يدرك، إلى ماض وأشخاص لم يتغيروا كأنهم ذاتهم، وفي أمكنتهم ذاتها، يطؤون الأحجار المرصوفة للذاكرة.. لو فقط انحرفت قلباً، ستشاهد الأبواب التي تنفتح على برك الماء ونوافيرها، والأزهار في أصصها الفخارية، تتلقى بدعة ودلال رذاذ الماء والذكريات، أي انفعالات تتشكل، يجمعها الغائب المستتر، الحاضر بتناغم مذهل لاجتهادات اللحظات المتأملة، والمقتطعة من حسابات الأخذ والرد واعتبارات التفاوت والأهمية، فضاء إنساني يرتله  شغف الأنامل.

روعة خيشي تجربة سورية جديرة بالمتابعة، درست في معهد فتحي محمد، وهي بعمر الخامسة عشرة،  ثم درست الفنون في فرنسا بالسوربون سنتين وسنة نحت في مدرسه البوزار، لها مشاركات ببعض المعارض في سورية وفرنسا، وثلاثة معارض بالسويد.

سمر محفوض