ثقافة

البيئة الحيوية للسرد

نعني بالبيئة الحيوية العناصر، والعوامل، والمعطيات المكانية، والزمانية، والإحيائية التي تشكّل قاعدة تفاعلية، ومناخاً للعمل الأدبي عامة، والسردي خاصة.

في النقد والدراسات الأدبية تم تناول ميدان العمل الأدبي بمصطلحات متعددة، وكلها تعني المكان، هذه المصطلحات هي المكان، الفضاء المكاني والحيز، رأينا ذلك عند نقاد عالميين، ومنظرين كباختين الذي قسم المكان الروائي إلى: المكان الداخلي، المكان الخارجي، المكان المعادي، وفضاء العتبة، الداخلي والخارجي ماهيته مفهومة، أما فضاء العتبة فهو الأمكنة التي تعبرها الشخصية الروائية، في حين المكان المعادي هو الذي تعاني فيه الشخصية الروائية بعدم الانسجام، وهذا ما يسبب الضيق والقلق.

اعتمدت المدرسة الألمانية مصطلح الفضاء، واعتبرته أشمل من مفهوم المكان الذي ميزت فيه بين مكانين: المكان الفيزيائي الخاضع للمقاييس، والمكان الآخر هو الفضاء الدلالي الذي يخص شخصيات وأحداث الرواية، أما شاتمان فيذهب باتجاه آخر في كتابه (البنية السردية في القصة والفيلم)، حيث لا يولي المكان أهمية كبيرة، فقد قسم الخطاب السردي إلى قسمين بنية الاتصال السردي، وهذا يعني شكل السرد، وثيمة الاتصال وتبعاته التي تعني تقنية ظهور السرد في بيئة محددة، أي ليست المكان وحسب.

عربياً هناك دراسات عديدة تناولت المكان، منها دراسة لـ “غالب هلسا” الذي قام بترجمة كتاب غاستون باشلار (جماليات المكان)، قسم هلسا المكان إلى ثلاثة أنواع:

المكان المجازي: وهو الذي يتشكّل برواية الأحداث.

المكان الهندسي: وهو الذي تصوره الرواية بدقة محايدة، أي بغض النظر عن الحدث ولو كان خلفية لهذا الحدث.

المكان بوصفه تجربة: وهو يحمل معاناة الشخصيات، وأفكارها، ورؤيتها للمكان، وهو ما يثير خيال المتلقي، فيستحضره بوصفه مكاناً خاصاً مميزاً.

يبدو تقسيم المكان على هذا الشكل غير مقنع، حيث يمكن دمج المكان المجازي بالمكان بوصفه تجربة، فالتجربة لابد أن تأتي من حدث، ويمكن دمج الأقسام الثلاثة بمفهوم البيئة الحيوية التي تجمع بين الستاتيكي الثابت، كمعالم المكان من مكونات جغرافية، ومعمارية، وبين دينامية الحركة التي تقوم على النشاط الإحيائي، هذا الجمع يتم في خضم الحدث، وفي بنية السرد، وبشكل تفاعلي يتم تخليق البيئة الحيوية باللغة وذلك وفق مستويين: الأول يعتمد الوصف لخلق أبعاد المكان ومكوناته، السمات والمعالم الخاصة والمميزة، والثاني يتم بالصورة الفنية، أي ليس بشكل فوتوغرافي مشهدي، فالصورة الفنية تعمد إلى إعادة تشكيل البيئة الحيوية عن طريق بناء أنساق علائقية بين الظواهر والعناصر المكونة له، كشف وبيان الأعماق النفسية لشخصيات، وانعكاس ذلك على تفاعلها مع محيطها، والكاتب قد لا يكون أميناً للبيئة المفترضة للعمل الأدبي، فقد يعمد إلى خلخلة واقع بيئي، وتحويله ببنائه لواقع افتراضي، أو قد يعمد إلى تبئير جوانب معينة لهذا الواقع، كل ذلك وفق أغراض العمل الأدبي، في هذه الحالة تكون للبيئة سمة سيموطيقية جمالية غير مألوفة،  وهذا ما يؤدي إلى إثارة الانفعال الجمالي لدى المتلقي.

مصطلح البيئة الحيوية غير معروف في الدراسات والنقد الأدبي بشكل كاف، وكما أسلفنا المعروف أكثر هو المكان والفضاء، والحيز.

هذا المصطلح وليد اتجاه جديد في مضمار النقد الأدبي يدعى (النقد البيئوي)، وهو يهتم بدراسة العلاقة بين الأدب والبيئة، وقد ظهر هذا الاتجاه بشكل محدود في أواخر القرن الماضي إثر مقالة نشرها وليام ريكارت، وهذا الاتجاه النقدي يتجاوز دراسة حضور البيئة والطبيعة في النصوص الأدبية إلى صياغة نظرية تعنى بتحليل الوظيفة الفنية، والاجتماعية، والتاريخية، والأيديولوجية للبيئة في الأعمال الأدبية.

من المصـــــادر التي عنيت بهـــــذا الاتجـــــاه النقدي كتاب (مرشـــــــد نقد التبيؤ) لكوتفيلي وكتاب (الخيال البيئي) تأليف لورنس بيول.

عربياً ليس هناك اهتمام كاف بهذا الاتجاه فالاهتمام انصب في جله على المكان والبيئة الجغرافية بشكل استاتيكي غالباً أو كأرضية وخلفية للحدث، وبشكل خفض من المستوى الدلالي لعناصر البيئة.

البيئة الحيوية في الأعمال العربية

ثمة مقولة للكاتب إبراهيم الكوني تبين أهمية البيئة في أعماله التي وحدتها بيئة الصحراء الغربية وهي (الصحراء هي خليفة الله في الأرض) في أعمال إبراهيم الكوني حضور صارخ للبيئة، بيئة الصحراء بكل ثقافتها وموروثها، بمكوناتها التي تحاكي بحيويتها الإنسان، نجد ذلك في كل أعماله، التبر، البئر.. تنجم الدهشة والانفعال الجمالي في أعمال الكوني من السمات الخاصة لتلك البيئة من تفاعل الإنسان معها حيث العلاقة العضوية بمكوناتها وروحنة تلك المكونات.

روايات أخرى دارت في  بيئة مماثلة جغرافياً، مكانها الصحراء أيضاً، لكن بشكل مختلف ناجم عن نســق العلاقات التي تحكم علاقة البشر بمكوناتها وعلاقة مكوناتها ببعضها، منها خماسية (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف، يرصد فيها التغيرات التي طرأت على الحالة الاجتماعية  والثقافية لتلك البيئة إثر التغيرات التي استجدت على المكان جيولوجياً واقتصادياً.

رواية الطيب صالح الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال) دارت في بيئتين مختلفتين، بيئة شخصية العمل الأساسية مصطفى سعيد وهي السودان، والبيئة الخارجية المتمثلة بالغرب الأوربي، جوهر الرواية هو تفاعل هذه الشخصية مع هاتين البيئتين، خاصة اغترابه في البيئة المغايرة المتمثلة بالغرب الأوربي.

للبيئة المدنية العربية وجود واسع في الأعمال السردية، نجد ذلك في أعمال نجيب محفوظ، حكايات حارتنا، وخيري شلبي خاصة “وكالة عطية” التي تناولت قاع المدينة، وقامت على أولئك المهمشين وعلاقتهم بالحياة عامة من خلال بيئتهم البائسة، وقد برع شلبي في رسم معالم البيئة مكانياً والشخصيات كفيزكس وبنية نفسية، كذلك فعل غالب هلسا في روايته “ثلاثة وجوه لبغداد”.

البيئة الحيوية في الأعمال السورية

تنوعت البيئات التي قامت عليها الرواية في سورية من بيئة البحر التي تمثلت في أعمال حنا مينه خاصة، حيث كان بارعاً في إضاءة تلك البيئة، والجدلية التي تعتمل بين عناصرها الطبيعية والبشرية.

تبدو البنية النفسية لأغلب شخصيات مينه كمنعكس للبيئة البحرية، نزق البحر وجبروته، جماله وحنانه أحياناً، تقلبه وغموضه، وضح ذلك في روايتي “الياطر والمصابيح الزرق” وغيرهما.

رواية “مفترق المطر” ليوسف المحمود هي رواية بيئية بامتياز، لقد نجح يوسف المحمود في استحضار تفاصيل البيئة الساحلية الدقيقة وبشكل أقرب للتوثيق الأدبي، فلم يغفل أي تفصيل صغير، براعة يوسف المحمود كانت في توظيف عناصر هذه البيئة لاستنباط الدهشة حتى من المتلقي الذي هو على دراية كبيرة بها أي اختبرها بالحياة فيها.

البيئة في رواية (للحيطان آذان- الوحل) للكاتب محمد الحسين متعددة وهو ما يمكن تلمسه في روايات أخرى، حيث يمكن أن تقوم الرواية على بيئة عامة أساسية، وبيئات فرعية أو متضمنة فيها يسوق القارئ إليها الحدث والفعل الذي تقوم به الشخصيات الروائية.

في رواية “الوحل” ثمة انتقال إلى بيئة أخرى، هي بيئة الجسد، هذا الانتقال الذي تقوم به الروح في عملية التقمص، ولكي تعي الروح نفسها لا بد من الذاكرة.

الانتقال جسدياً ومكانياً في رواية “الوحل” يفعل فعل التطهير، تفاعلية شخصيات الرواية كانت واضحة مع البيئات المختلفة كما كان لعناصر البيئة دلالات غنية وواضحة.

مفيد عيسى أحمد