ادوارد غاليانو.. مكر التاريخ ومكر الحكاية
كثيراً ما يقف القارئ مكتفياً بشغفه الخاص وهو يحاول الدخول لعوالم الكاتب الأورغوياني ادوارد غاليانو صاحب أفواه الزمن، ومرايا ما يشبه تاريخنا للعالم، وذاكرة النار، ذلك الذي دخل الحكاية بمكر العارف، وبنى ما يشبه أساطيره الخالصة التي تُحيلنا إلى جماليات لا تستنفد في مرايا التاريخ/ تاريخ أمريكا اللاتينية، وتراثها المديد، ومرويات شعوبها، ومدوناتهم، فصاحب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية– غاليانو- كتب ونوّع في أقاصيصه وحكاياته كصحفي بارع، وحكّاء مثير، في استبطانه للذاكرة/ ذاكرته وذاكرة أمريكا اللاتينية منافحاً ضد النسيان بذاكرة طليقة، ولغة محبوكة في نسيجها الثقافي، وليس اللغوي فحسب، إذ ليست البراعة في اختياره لمروياته، وقبض قارئه على السحر الخاص الذي تمنحه الكتابة، بل أكثر من ذلك حينما نرى غاليانو يذهب من مكر التاريخ إلى مكر الحكاية، مستعيداً، وعبر أبطاله المتخيلين، ما يؤلف ذاكرة أمريكا اللاتينية، وثقافتها، وحضارتها، فتتقاطع في حكاياته المتصلة المنفصلة بسلطة عناوينها الأخاذة، تواريخ، وسخرية حارقة، ومفارقات الواقع حينما يجعل منه- غاليانو- أساطير بذاتها، فيها تنفتح مخيلة نضرة على تخييل مرهف، بالبنية الفنية التي يختار لها عدداً محدوداً من الكلمات، وقد يفيض في سواها، لكن حافزه الواقعي سيصبح تالياً حافزاً جمالياً فيه تعبير الرؤيا، وأكثر ما تتجلى فيه أيضاً سطوة المعنى الذي تنتجه عبقريته المخترقة للزمان، والمكان، واللغة، وبوسع قارئه لا سيما في أعماله في الترجمات الأخيرة لعملين بارزين له، وهما كلمات متجولة، وكتاب المعانقات، أن يعثر على ما يشبه كينونة إدوارد غاليانو الأولى حينما يعيد سيرتها بروح عاشق ومحارب ومؤرخ وفنان ومستشرف ومنتج لتراث فذ من الحكايات الأصيلة التي تعني تاريخ العالم كله، مختزلاً بعمق حكاياته الأثيرة، وبمدى ما تنفتح عليه رؤيته عبر مرويات ذاته وعالمه والآخر، ليكون كاتب سيرة ملونة حد الدهشة والشفافية، ففي كتابه كلمات متجولة، نعود إلى الشفويات الأميركية اللاتينية ومرجعياتها الثقافية المؤسسة، وتصادي الحكايات الشعبية المنسية، إذن هو يعيد بالكشف اللغة إلى حيزها الدلالي، سواء بوقوفه على معجزة اللغة، أو نوافذه على الكلمة والموت والنسيان، وحكايات الزمن الماضي والمستمر وسوى ذلك.
وبذلك يذهب إلى شعرية معاصرة في الكتابة الأساسية للمتخيل الإنساني، هذه الشعرية التي تكتفي بخصوصيتها وفرادتها، من ظلال الأمكنة إلى الأشخاص إلى ظلال الحكاية بالذات، فعلى سبيل المثال يقول في نافذة على الأوبرا الصابونية: «حق الولادة كان أكثر التمثيليات الإذاعية شعبية في جميع الأوقات، إن ميلودراما منتصف القرن أسقطت دموعاً غزيرة في أميركا اللاتينية. سئل المؤلف: لماذا تجعل البشر يبكون؟، دافع فيليكس عن نفسه: لا أجعل أحداً يبكي أقدم لهم ذريعة فحسب».
وهكذا تغدو محكياته باستعاراتها المختلفة أكثر تجلياً في مراياه، فمن عصف الزمن إلى صيرورة المرأة، إلى مضمرات الدين والسياسة في أميركا اللاتينية، يمضي غاليانو إلى استبطان الثقافة الأميركية بأنساقها ومحمولاتها، في امتداحه للحس ولزواج الكلمة والفعل والضحك والنسيان والأحلام، احتفاءً بالولادة المتواصلة لتراث ضارب الجذور، واجتراح نبوءات يكتشفها بالكتابة المستمرة، ليس ذلك إلا صوراً من تجلي الفن الذي يقاربه غاليانو بقدرة عالية على التكثيف واستحضار بلاغة عابرة للبلاغة، واحتفاءً بالصوت البشري، والأدل في هذا السياق في كتابه «كتاب المعانقات» بتفسيره لثقافة الإرهاب، إذ يقول: «الاستعمار الواضح يبترك دون تنكر: يمنعك من الكلام ومن الفعل، أو يمنعك من الوجود، أما الاستعمار اللامرئي على أي حال يقنعك أن القنانة هي قدرك والعجز طبيعتك، يقنعك أنه ليس من الممكن الكلام، وليس من الممكن الفعل، وليس من الممكن الوجود».
غاليانو في عوالمه الممزوجة بالحنين إلى ماض متصل منفصل، هو المؤرخ الضمني لروح أميركا اللاتينية، والتي تتجسد في شخصياته الأكثر شبهاً بالواقع، لكنها المخترعة من مخيلة قادرة على أن تبث شعرية الكائن الإنساني، الذي لا يعدو كونه صورة عن نوازع غاليانو الأصلية.
أحمد علي هلال