ثقافة

بيســـان

لم تعد تعنيها المرأة وغيرها من السطوح العاكسة للمظهر كزجاج السيارات أو اللوحات الإعلانية اللامعة التي تقف عندها الفتيات برهة ليستطلعن حالهن “عالماشي” كما يقال، لم تعد تزور مرآتها إلا لماما، وأحيانا دون قصد، حتى أنها في الفترة الأخيرة لم تنتبه أن مرآتها التي جاءت بها يوم زفافها، انكسرت، وأن ما تقف لتمشط شعرها أمامه هو الجدار! شعرها الذي طال مؤخرا وبدأت بضع خصلات منه تبيض تباعا، نصحتها جارتها بأن تقوم بصبغه، لكنها لم توافق على هذا، كانت تقول لشعرها وتخاطبه وهي تسرحه برقة بين أصابعها “بعد كل هذا العمر يا صديقي سوية، بالتأكيد لن ألونك” تبتسم له وكأنها ترد ابتسامته، قبل أن تذهب إلى شرودها الطويل، حيث شرفتها التي تطل على شارع مزدحم بالناس والسيارات والضجيج.

كان اسمها بيسان، فلسطينية سمراء تشلع درفات الصدر وتخلع القلوب بكل ما فيها، سمارها الرهيف المتقد كما لو أن نورا يمشي برقة تحت جلدها، قامتها المتثنية كعود حبق في النسيم، لطفها ولؤمها، خضوعها وتنمرها، زعلها ورضاها، قدومها الصبح وإيابها المرتج كما سفوح الندى، شعرها الأرجوحة، يتدلى لمستوى ركبتيها تقريبا، أسود فاحم تبدو فيه وكأنها الرسولة بشعرها حتى الينابيع، أما ما يذيب القلوب، فصوتها وهي تغني ثملة واضعة راحة يدها على خدها كما لو أنها ولجت مسحورة ملكوت الفصول. “بيسان” كانت من الأخر حلم له شكل امرأة، تمشي ولكن على غيمة.

في الطريق الذاهب من جامعة دمشق ثم الحجاز فالحميدية، ومن مدخل “صلاح الدين” المجاور لسوق الحميدية فالأموي وصولا إلى مقهى النوفرة، كانت أينما مشت وخطت كغزالة شاردة، وصلتها لوعات القلوب وحرائقها، إلا أن لـ “بيسان” حديثا آخر تحت الجمر، حديث لا تشغلها عنه كل وعود الرجال الذين ذابوا بحلاوتها، كم وعدت بالشهرة والنجومية، وكم سفكت على عتبات نظراتها دماء القلوب وكراماتها، وكم وكم، شأن واحد كان قادرا على لفت انتباهها، ولما كان من الشؤون التي لا يجوز لأي كان أن يطلع عليه، فإنها كانت تبقيه لمن تعتقد أنه سيحقق لها رغبتها السحيقة، أو على الأقل فيه صفات رجولية كافية، تجعله يبر بوعده، بيسان تريد من الذي ستمنحه قلبها وروحها وكل ما فيها، أن يأخذها إلى مدينة “بيسان” الفلسطينية “لو سمحت من أقدم المدن في فلسطين وبلاد الشام والعالم” كانت تقاطع من يذكر أنها من هناك دون أن يقول التتمة التي تكملها هي بما قالته.

إلا أن وعدا كهذا لن يقطعه من ليس على قدره، وسيتهيب العديد من الرجال الخوض فيه، لكن “غياث” وحده من سيفعلها، قال لها حينها “رح آخدك على بيسان ولو بدي أحملك عكتافي كل الطريق” لم يكن ينقصها إلا أن يقول هذه الجملة بالطريقة التي قالها، لتقتنع أنه رجلها المنشود.

منذ ستة أعوام ذهب “غياث” ورفاق السلاح الذين تطوع معهم عند بدء الحرب على البلد التي أحبها الرجل وقرر أنها أيضا أمه التي ربت وكبرت وعلمت، ذهب ليفتح الطريق لحبيبته “بيسان” إلى بيسان عن طريق الجولان “جهزي حالك يا عروس، مهرك عالطريق” قال لها وهو يضمها قبل أن يغادر، مستنشقا عطر شعرها ولكأنه يعرف أنه لن يضمه مرة أخرى، إلا أن غياث لم يعد من حينها، وصلتها رسالة من صديقه تخبرها بما يلي “غياث فتح عتمة خيالو وفات”.

كان قلبها ثقيلا بما فيه الكفاية لتنتبه أن الحياة تمرّ عليها بنفس الرتابة، وما من طعم لشيء بعد الآن حتى الوعود والآمال، لكن صورتين سكنا خيالها كما الجدار الذي علقتا عليه، غياث وهو يرتدي الكوفية على رقبته ويبتسم في الصورة لبندقية الكلاشينكوف التي يضمها، وصورة “بيسان” المدينة التي لم تعرفها يوما، لكن روحها كما تقول لا يمكنها الموت والراحة إلا فيها، “ستبقى روحي تائهة بين السموات والأرض ولن تجد لها راحة أو مستقر أبدا إن متّ في ارض غير بيسان”.

تمّام علي بركات