“سعيد حورانية”.. انتصار للشكل والمضمون معاً ضمن فنية الحدث
حفل الملتقى السردي الثالث بعنوان: “سعيد حورانية: كاتب الرفض والتمرد” في المركز الثقافي -أبو رمانة- بكثير من التساؤلات عن هذا الأديب المتأثرة أفكاره بمرحلة تاريخية تعدّدت فيها التيارات السياسية، ليكون رائداً من رواد التنوير الذين أسّسوا فنية الأدب السوري مع غيره ممن عاصره من الأدباء، لتختلف آراء المشاركين والحاضرين حول سبب توقف حورانية عن الكتابة، ويبقى السر لغزاً، ويستمر البحث لنجد أنفسنا إزاء مقولة د. عاطف البطرس “صمت سعيد حورانية ليبقى ذاك النسر المحلق”. ومما أثار إشكالية في الملتقى أيضاً قصة “الصندوق النحاسي”، إذ اعتقد بعضهم بأنها انعكاس لعلاقته بأمه، لكن شوقي بغدادي أكد علاقته الحميمة بوالدته، وتعود هذه القصة لتأثره برواية “عقدة الأفاعي” لمورياك.
وقد أثنى الجميع على طباعة وزارة الثقافة الأعمال الكاملة لحورانية لتوثيق جزء من الذاكرة الأدبية السورية، رغم أنه لم يصدر إلا ثلاث مجموعات تضمّ قرابة ثلاثين قصة.
ثمة انكسارات
افتتح الملتقى الإعلامي جمال الجيش ليشير إلى أهمية الملتقيات التي تحظى بالمتابعة، والتي تنضوي تحت عنوان الوفاء لأسماء كبيرة، شكّلت فضاء ثقافياً شديد الحضور عبْر مرحلة كانت شديدة الدقة في تاريخنا المعاصر، تحقّق بعض مما كانت تعدّ، وثمّة ما لم يتحقق، وثمة انكسارات حدثت، ثمة أشياء مازالت في داخلنا، ليتحدث عن سعيد حورانية عبْر اشتغالات الحكائية البسيطة، والذي كان جزءاً من تاريخ سورية.
ابن البيئة
جمالية مشاركة د. جمال عبود أنها تنطلق من كونه ابن البيئة التي عرفها أكثر مما عرفها سعيد حورانية، كما قال: “رأيتها بعيني سعيد بأفضل مما رأيتها بعيني أنا، لم يعرف حورانية ولا كثير منكم كم يكون المطر غادراً ولئيماً، أو كيف يكون الغبار خانقاً أكثر من حريق في غابة”، مما أعطى مشاركته بعداً وصفياً آخر كوّن لدى الحاضرين صورة تلك المناطق النائية والتائهة، ليبدأ بـ”سعيد حورانية بين محفزات الحكاية ونواظم القصة الجديدة..”، وبرأيه “فإن سعيداً بدأ حكواتياً، إذ قرأ وحكى سير عنترة والزير سالم والتغريبة الهلالية مما أصّل لديه الرغبة بتمثل الحكاية –الواقعة–الحدث، ونقلها ليس بأمانة وحيادية ومباشرة، ولكن بإحساس ورؤية وتنوير، فقصة الحكاية عنده تقوم على واقعية الحدث وواقعية الشخوص، وتمتاز بلغتها الخبرية البعيدة عن البوح الذاتي، وإن كانت الرؤية الذاتية متمكنة من حسن التقاط الحدث من بؤرته وصميمه، والبيئة بعد ذاك زماناً ومكاناً تكاد تكون لازمة أساسية، محللاً أبعادها وخلفيتها وشخوصها”، و(أنقذنا هيبة الحكومة) القصة التي وصفها د. عبود بأنها تنتمي إليه، ولكن الأجمل كان تحليله لقصة (محطة السبعا وأربعين) الحكاية المليئة بالدهشة، الدهشة التي كانت برأي د. عبود سبباً في توقفه عن الكتابة، كما قال، “ولابد أن سعيداً قد توقف ومنذ وقت مبكر عن الدهشة”.
حياتنا المشتركة
وأخذ حديث الشاعر شوقي بغدادي الحيّز الأكبر من الملتقى، وكان الأكثر تأثيراً بالحاضرين لغزارة ذاكرته الانسيابية لهذه الصداقة التي استمرت حتى وفاة حورانية، ولأسلوبه الشائق بالسرد الحكائي الذي لا يخلو من الطرافة، فأنصت الجميع وكأنهم أمام الحكواتي. ووصف بغدادي علاقته بحورانية بعلاقة عجيبة، قُسّمت إلى مرحلتين، الأولى من عام 1946 إلى بداية الستينيات عهد الاستقلال وظهور حزب البعث العربي الاشتراكي، وهي ما أطلق عليها “حياتنا المشتركة”، والمرحلة الثانية وصفها بغدادي “بالحياة المتغيّرة نسبياً”.
بدأ بغدادي “ذكرياته مع سعيد حورانية” حيث ارتبطا بصداقة حميمة استمرت خلال الدراسة في المعهد العالي للمعلمين وكلية الآداب وكلية التربية، وصف هذه المرحلة “بالمرحلة الصبيانية” لما تخلّلها من مواقف طريفة، لينتقل بغدادي إلى مرحلة تعيينه في اللاذقية، وتعيين حورانية في الحسكة ليعيش أجواء البادية ويراقب حياة المهمّشين البائسين المظلومين، مما أثر عليه ككاتب قصة مختلف عن كاتب القصة ابن المدينة، وبعد ذلك تشعّبت خطوط الحياة غير المشتركة بينهما، إذ اندمج حورانية بالمكتبة الوطنية وتأليف الكتب ليعيش، وكتب قصصه “وفي الناس مسرة، وشتاء قاس آخر، وسنتان تحت المراقبة”. وأوضح بغدادي أنه حاول أن يكتب الرواية إلا أنه لم يملك الصبر لإكمالها فانصرف لكتابة القصة.
ويضيف بغدادي: دخل حورانية مرحلة غيّرت حياته بسفره إلى موسكو، حيث عمل هناك مدققاً لغوياً “لمجلة موسكو”، وحينما عاد إلى دمشق استلم رئاسة المركز الثقافي الروسي، واستمرت علاقتنا من خلال حضور نشاطات المركز إلى أن أصيب حورانية بالسرطان وتوفي في السادس من حزيران عام 1994.
ويعزو بغدادي توقف حورانية عن الكتابة إلى الرفاهية الممزوجة بجماليات الحياة التي عاشها في موسكو، بعد أن كان الحرمان المعنوي والمادي والعاطفي يلعب دوراً كبيراً في كتاباته.
الواقعية بدلالاتها العريضة
واتخذت مشاركة الأديب نذير جعفر بعنوان “سعيد حورانية- ذلك المفرد بصيغة الجمع” طابع تحليل الخصائص الفنية في أدب حورانية، إذ صنّف بدايةً قصصه من ناحية طبيعتها الفنية لا من ناحية وظيفتها، إلى سرد الأحداث، وسرد الأفكار والتأملات، وبسط المواد المناسبة أو الصالحة للتوظيف السياسي في سياق التحريض على مقاومة السلطات المستبدة الغاشمة، وقوى الاستغلال الطبقي، والتعاطف مع الطبقات الفقيرة عامة لا مع “البروليتاريا” فقط، عبْر تلمّس مواجعهم وفضح الممارسات القمعية السلطوية والطبقية التي تمارس ضدهم، وتمجيد الحزب البروليتاري الذي يدّعي احتكار الدفاع عن مصالح الفقراء، ليشرح خلفيات قصة “عريظة استرحام” التي تضمّنت لهجة أبناء المناطق الشرقية، ليخلص إلى أن الكاتب رسّخ فكرة أن يكون المبدع مثقفاً على شتى الصعد، وابتعاده عن الواقعية التسجيلية السالبة والبقاء ضمن إطار الواقعية بدلالاتها العريضة التي تتأبى على الانحشار ضمن أحد تطبيقاتها الموسومة بالواقعية الاشتراكية.
تابو اللغة
وأشار جعفر أيضاً إلى أن حورانية كسر”تابو” اللغة العربية الفصيحة، فمنح شخصياته حق التكلم بمنطوقها الحرفي ولهجاتها بين دمشق وريفها، ولهجة الجزيرة العربية وأبناء جبل العرب، وهذا أعطاه سمة التنويع السردي، “من يوميات ثائر- حمد ذياب- عريظة استرحام- قيامة أليعازر”، ليناقش أدبية القصص التي تمثّلت عند حورانية بأدبية اللغة وأدبية الحدث، وليصل إلى تحليل الظلم الاجتماعي من خلال (دراما الأسرة).
التصارع والتضاد
وتحدث د. عاطف البطرس في “أيديولوجيا الكاتب والإبداع الفني” عن البنية التكوينية لشخصية حورانية، والمرجعيات الفكرية التي ترسخت في نفسه، ليبيّن العلاقة بين رؤية الكاتب للعالم والإبداع الفني والخيارات التي يستخدمها المبدع ليقدم رؤيته الفكرية وموقفه من الحياة والإنسان، فهناك علاقة يعبّر عنها بالصدق الفني، ليتابع بأن حورانية كان يترك لشخصياته فرصة لتتحدث عن نفسها وتحدّد مصائرها ضمن شبكة علاقات القصة، فكانت حرة لها منطوقها، والمسألة الثانية التي ناقشها د. البطرس بيئة حورانية المتدينة، فهو من عائلة كانت غنية ثم أفقرت، ومن إيمانه بالفلسفة الماركسية ليصل إلى خاصية التصارع والتضاد والرفض والتمرد، إذ رفض العلاقات الاجتماعية السائدة التي عاشها في بيئة الميدان المنغلقة، والأفكار السائدة في زمنه، وانتقل إلى فكر يمثّل مرحلة حضارية ومتطورة تختلف عن السياقات التي عاشها، وهذا ما ترك أثراً في ذات الكاتب.
دراما منوعة
وتقاطع الكاتب بشار البطرس مع الأديب نذير جعفر في مسألة تبني حورانية مشاهد دراما الأسرة في قصصه، إلا أنه ذهب إلى أبعد من ذلك وهو يتحدّث عن العلاقة بين الأدب والدراما، ويرى أن أدبه لم يقتصر على دراما الأسرة وإنما تجاوز كل أنواع الدراما وفق هرم عالم النفس “سالوم” دراما التشرد- دراما العنف- دراما الكره- دراما المقاومة- دراما العلاقات الإنسانية والخاصة- إلى دراما تأكيد الذات- إلى دراما عنصري الزمان والمكان، ليصل البطرس إلى وجود أكثر من مستوى درامي في القصة ذاتها، ويناقش فيما بعد عنصر الرمز كرمز الحيوان، فالحسون يعني عودة الروح، في حين الغراب يعني الخراب الذي حلّ بالقرية، إضافة إلى تخلّل القصة تقنيات الرواية وخلخلة الزمن وتعدّد الأصوات.
تقنية المونتاج المتوازي
وتساءل الناقد أحمد هلال في مداخلته: هل كان حورانية رائداً بالمعنى التاريخي أم بالمعنى الفني؟، ليلتقي مع الأديب نذير جعفر بأنه كان رائداً بالمعنى الفني، إضافة إلى العوامل النفسية التي شكّلت مناخاً للكتابة والتي أطلق عليها “الكتابة الفادحة” ودفع ثمنها باعتقالاته بالسجن والتعذيب والاغتراب. ويرى أنه لم يكن شيوعياً بامتياز ولا ماركسياً بامتياز، وإنما كان يحاول أن يجد صيغة لوعيه الذي حاول أن يفارق مواضعة بيئته والمنظومات النسقية التي تمرّد عليها، ليخلص إلى أنه كان صاحب فطرة مركبة أراد أن يكتب أدباً واقعياً ليس مئة بالمئة، لأن واقعيته ليست واقعية انعكاسية وإنما واقعية جديدة بمسارها وربما ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك ليقولوا: “إنها واقعية اشتراكية”. ويرى هلال أنه توقف عن الكتابة وصمت لأنه لم يقل ما أراد، وأن القراءة لديه شكلت أرضية للتراث والموروث، وكان مذهبه بالكتابة مذهباً تجريبياً خالصاً، أي أنه لم يرتكن إلى مدرسة بعينها على الرغم من أنه قرأ ماتيسّر له من الروايات العربية والعالمية، وانتصر للشكل والمضمون في آن معاً، كما أنه أدخل تقنية المونتاج السينمائي المتوازي، وهذا يسجّل له.
ملده شويكاني