ثقافة

صـيـد الـمـخـيـّلات

محي الدين محمد

أدباء كثيرون قدامى ومعاصرون حمل أدبهم وعياً تاريخياً لتكون خاتمة النصوص شعراً أو نثراً ذات نموذج مركب ومن أجزاء متحدة لا تضعف المتأمل فيها بما تحمله من أفكار، وتنبثق التجربة من روح العصر الذي تنتمي إليه، وتكون حاضنة للصور، وذات صلة وطيدة بالرؤيا باتجاه الحلم بالتغيير المستقبلي نحو الأفضل، والذي تطمح إليه المجتمعات في تجانسها الطبقي، علّها تتمكن من تتويج ابتسامة المحتاجين بالخلاص من العوز الذي ورثته بحكم انفتاحها على الدنيا.

من هنا يمكن القول: إن بعض التشكّل في الموضوعات الشعرية والنثرية في قالب أدبي متعدد على الصعيد الاجتماعي قد دعا فيه المهتمون، وهم يقترحون الحلول الخاصة بالطبقات التي تعيش المأساة المادية، إلى التركيز على الأدب الشعبي بوصفه ينبض بالحيوية الدامعة أحياناً، ومعه يجب الاستماع إلى الأصوات الطالعة هنا وهناك عبر منظومة متوازية في استداراتها على مستوى المزج بين الذوق السليم والأدب الذي تنتجه البيئات الشعبية المحرومة والفقيرة، لأن الأدب الحقيقي لا يتكون في القصور والأماكن التي شغلتها الرفاهية حتى تحولت إلى آلة تعمل بلا إحساس تجاه الآخرين، وإنما يتكون الأدب الحقيقي في البيئات التي ظللتها الحاجات، ولكن بأوضاع تشبه ظاهرة النمو في النبات، بعكس الحياة الأولى التي يحاكي فيها الأغنياء البيئة والزمان على طريقتهم الخاصة، ولنا في هذا الرأي ما كتبه كبار كتّاب الإغريق لعصرهم وأخلاقهم، حيث إنه لم يرق بتقنياته من خلال التفاعل المؤثر في محيطه، وبما يرضي الأديب الملتزم بالقضايا الإنسانية في تماسك نصوصه، وصدق الوجدان العاطفي، في سياقها الملامس للعصب الحياتي القائم على شقاء الآخرين حتى في العصور التالية، ولئن كان بعض المتأدبين العرب يميل إلى العزلة والتقسيم في ذروة تعلّقه بما يكتب، حيث بدا حريصاً على معاهدة (سايكس بيكو)، فاستولد المشاريع الهدامة والبعيدة عن شعار الوحدة، فارتفعت نسبة الشتات والضياع في موضوعاته، وذلك للحفاظ على الكيانات السياسية التي ارتبط بها، ووظفت تراكيبه في الخطاب الشعري بما يخدم الفراغ، والقطيعة، والتباعد عن أبناء جلدته، ومع هذا الحصار السياسي والأدبي المشترك، اخترقت الخيانات بعض الكتابات الأدبية، ولاسيما الشعر والقصة في أماكن متعددة من الوطن العربي، ومال معها أصحابها إلى مديح الجهات الحاكمة الداعمة لإنتاجهم، وفقدت لغتهم أسرار البساطة المتحدة بتواصل جمالي مع البيئات الشعبية كقناع متجدد الصفات في فضاء الذاكرة.

لقد برهن المادحون للكيانات السياسية أنهم قد هجروا الطاقات الإبداعية التي تصيد فيها المخيلات شعراً صادقاً وجدانياً، ومعه تترسّخ القيم الإنسانية بردائها الوطني المفتوح على الثقافات الكونية، والتي تتشابه فيها عمليات المقاربة بين هذا النوع البشري المذيل بالحاجة، وذاك الذي يعيش التجربة نفسها، في حين سقطت الأقنعة السوداء عن الممدوحين من ملوك السياسة، وبرهنوا على عداء الإبداع الصادق الذي يموت فيه الشاعر واقفاً دون أن يهجو، أو يمدح متملقاً فيما ينتجه من أعمال.

وفي دراسة النصوص الأدبية بمقاييس تخلو من الطابع التقليدي في بنائيتها الفنية، لابدّ لنا من مواكبة النماذج التي كتبت، ولا تضعف من شروط التأمل فيها حتى فيما يكوّنه التخييل الشرقي للشعر الذي اطلعنا عليه قديماً وحديثاً.

لكن الحديث عن دور الأدب بأجناسه المختلفة في المرحلة التي حكم فيها الاستبداد العثماني، والمستعمرون الغربيون بلادنا، وكثرت النظريات في الاختلاف حول طبيعة الأدب الذي امتهنه بعض التابعين للعثمانيين كأحمد الشدياق، وهو مصري الجنسية، ومن مفكري عصر النهضة، والذي فضل مصلحة أصدقائه العثمانيين في سلوكه الأدبي على المصالح الوطنية الأخرى، وساد الاتجاه التغريبي في عصر النهضة أيضاً على يد كتّاب مثل رزق الله حسون، ورشيد الدحداح، ورفاعة الطهطاوي، وسلامة موسى، وطه حسين، وغيرهم، وما رآه جمال الدين الأفغاني الذي مهد لثورة عرابي باشا في مصر، والذي طالب بالعودة إلى العقل الإسلامي في ثقافته كحل ثقافي يواجه فيه الأدباء العرب المقام الأدبي في أوروبا إزاء الرؤى المتباينة حول طبيعة الأدب في تلك المرحلة.

ولابد من الإشارة هنا إلى سلوك الشعراء في مديحهم للسلاطين والباب العالي، واستمر أدب الانحدار الذي كان أهله يتبارون في المساجلات والتسميط عبر موضوعات كانت تدور شعراً، وفي الأغلب الأعم منها موضوع الغزل الخائر لغة، والمتكلف، وتبعه الوصف البليد، والهجاء البارد، والمديح الكاذب الذي لا يشتهي أحد من الناس الاستماع إليه.

أما النقد الذي رافق هذه الأجناس الأدبية شعراً ونثراً، فكانت وظيفته إظهار العيوب، والمحاسن، واعتماد الذائقة المهذبة بمزاج ذاتي وموضوعي في آن واحد، وبدا متأثراً بثقافة الناقد، ومدى إدراكه، واتساع اطلاعاته، أما اليوم فيجب على الأديب بعد أن قرأ ما أصاب أدبنا شعراً ونثراً من هزائم كانت وراءها الأفكار المضللة والداعية إلى التقسيم والعزلة، أن يكون متماهياً في اهتماماته بجيل الشباب الذي يتعرّض للنبرات المأساوية التي أفرزتها السياسة العربية المناصرة للانكسارات الرّوحية، والمواجع التاريخية التي أخفقت بها هيبة الأدب، وكان من أوجاعها ما نحصده اليوم من آلام.