“يا دمشق وداعاً-فسيفساء التمرد” .. رحلة ممتعة عبر الزمن
لا ريب أن تناول الأدب بفنونه المختلفة لحقبة زمنية محددة يعد وثيقة أدبية وتاريخية مهمة توثق لذلك الزمن، وتنقلنا إليه وتنقله إلينا بمتعة لا نظير لها، ولعل الرواية هي الأكثر تجسيداً وقدرة على ذلك، فالشخصيات، أقوالها أفعالها وتصرفاتها، وطريقة حياتها وتفكيرها، الأحداث التي تمر بها، والأمكنة التي تتنقل فيها؛ كل ذلك يسرق المتلقي من نفسه ويأخذه في رحلة نوعية ومختلفة لزمن الرواية، ويجعله يعيش الحدث الماضي برؤيته المختلفة التي تختلف من زمن إلى زمن، ومن متلق إلى آخر، إلا أن سحر وخصوصية المكان له أثره الخاص الذي يلقي بظلاله على القارئ ويبقيه أسير الماضي بكل إيجابياته وسلبياته، وخصوصاً إن صيغ بحبر الحب والتمرد في آن، ومن أقدر من أديبتنا غادة السمان على ذلك..
أنا صخرة في قاسيون
من هذه العبارة التي رددتها زين الخيال بطلة رواية “يادمشق وداعاً- فسيفساء التمرد” على مدار الأحداث استمدت قوتها التي استطاعت من خلالها مواجهة واقع اجتماعي قاس، مجتمع كبلته العادات والتقاليد، وسيطرت عليه أعراف فرضت نفسها بقوة في فترة الستينيات، وربما حتى الآن، حتى بات الخروج عنها جريمة يحاسب عليها المجتمع، ويعتبر المتمرد عليها إنساناً مرفوضاً وغير مرغوب به، وهو عرضة للتطاول والتهكم، إلا أن البطلة تأخذنا في تمردها كل مأخذ، فتقاوم وتقاوم لتشكل بذلك نموذج المرأة القوية القادرة على التغيير والتأثير بمن حولها، لكنها تصطدم بواقع مر يحاصرها من كافة الجهات ويجبرها على الوداع والرحيل، فالروح الحالمة لا تقبل بالقيود ولا تستطيع إلا أن تحلق بعيداً عن كل الاعتقادات والممارسات التي قد تأسرها حد الاختناق، لتلحق بحلمها وتثبت في النهاية أنها قادرة على الوصول وتحقيق الحلم..
تمضي الرواية بنا عبر أحداثها لتسرد لنا رواية مجتمع حقيقي بشخوصه ونماذجه المختلفة؛ واقعهم وأفعالهم، لتتوغل عميقاً في تفاصيلهم وأحوالهم النفسية، فنرى عبد الفتاح الأب السادي المتسلط على عائلته، وبالمقابل هناك نموذج الرجل الذي تغلب على عقد السيطرة والتسلط لديه كالأب أمجد الخيال والد البطلة زين الذي كان الداعم الأكبر لها والسند الحقيقي في كل قراراتها، وغيرها من الشخصيات المؤثرة والحقيقية إلى حد بعيد..
“يا دمشق وداعاً”.. عند قراءة العنوان للوهلة الأولى يتبادر للذهن ما تعانيه دمشق اليوم، وسورية بشكل عام، من ويلات الحرب القاسية التي تمر بها، “الوداع” هذه الكلمة المرة التي فرضت نفسها رغماً عنا على حياتنا، من وداع للمكان والأهل والحياة، ففي هذه الحرب الموجعة كلنا معرضون وفي كل لحظة للوداع، ولعل الروائية أرادت إسقاط معاناة الأمس على معاناة اليوم، لتلقي الضوء على واقع صعب يتطلب التغيير وإعادة البناء على كل الأصعدة، والبداية من بناء الإنسان.
ورغم تناول الرواية لأحداث الستينيات واختلاف الفترة الزمنية، إلا أن هذه الحرب لها أسبابها البعيدة والقريبة، ولا ريب بأن الانغلاق والتمترس والانقياد دون وعي خلف أعراف وأفكار معلبة كان لها، بشكل قريب أو بعيد، علاقة بما حدث ويحدث..
لا يمكننا حين نقرأ الرواية إلا أن نسمع صوت غادة السمان وهي تتحدث بلسان زين، رغم تأكيدها في بداية الرواية، أنها من صنع الخيال الروائي فقط، وأن أي تشابه مع أحياء أو أموات إنما هو من قبيل المصادفة، لكن التشابه كان كبيراً بين الشخصيتين “غادة- زين”، وإن اختلفت بعض الأمور، لكن الأحداث الأساسية والعناوين العريضة لحياة كل من الشخصيتين هي نفسها، حتى في حديثها عن غزوان العائد، نرى صفات مشتركة بينه وبين المناضل غسان كنفاني، نستطيع استشفافها من خلال الخيوط المشتركة التي تجمع الشخصيتين؛ القوة، التمرد، النضال..
بلغة سردية متقنة عفوية ومنسجمة مع بنية النص الروائي استطاعت غادة الخوض في أعماق شخصياتها والتعبير عنها ووصفها بكل حرفية الروائي الناضج والقادر، كما استطاعت من خلال الوصف والتصوير الدقيق إيصال المبتغى..
احتل المكان أهمية بارزة في الرواية من خلال الإسهاب في وصف معالم دمشق وبيروت بدقة، حدائقها ومنازلها وحاراتها وتنقل الشخصيات فيها، وحتى في اختيارها للبطلة لم تتجه الروائية باتجاه الكمال فكانت زين حقيقية وقريبة منا، فهي تخطيء وتعترف بخطئها وتحاول تصحيحه..
كما استطاعت إلى حد ما خلق المعادل لصورة المرأة الدمشقية التي لطالما تم تكريسها بالخضوع الأعمى والانقياد اللامتناهي خلف الرجل، إن كان في الأدب عموماً, أو في الفن والدراما خصوصاً، ومن خلال زين نستطيع أن نرى الوجه الآخر للمرأة الدمشقية في تلك الفترة، الوجه الذي فرض نفسه وبقوة فيما بعد..
تثبت الأديبة غادة السمان في كل مرة، وفي كل جديد لها، قدرتها على رفد عالمنا الأدبي بما يغني مكتبتنا ويثري فكرنا بالمفيد والمختلف..
“يا دمشق وداعاً.. فسيفساء التمرد” رواية صادرة عن منشورات غادة السمان- بيروت – 2015
هديل فيزو