ثقافة

وجهُ أمّ

لصباحاتها المبكرة طعم الحياة، إذ يطلق الباب الخشبي القديم أنينه الذي لا شفاء منه، تملأ ركوتها الفضية بالماء، تغسل وجهها، وتنتظر انتشار عطر قهوتها في الجو، تترك لصوت فيروز أن ينطلق، ثم تبدأ بإيقاظ الحياة في زوايا البيت.

لم تحاول أمي أن تصبغ شعرها يوماً، تصالحت مع ذاتها ومع الزمن رغم ضرباته، ومع تلك الشعيرات البيض التي تسللت مع مرور الأيام، اكتفت أن يكون قصيراً مرتباً مبتعداً بقدر كاف عن وجهها الصغير؛ بقسماته الناعمة المتناسقة” كانت الأجمل إذ هي أمي”.

أذكر تماماً “والخوف ينمو؛ والقلب يغوص عميقاً “تلك الخطوط الناعمة التي كانت تتزايد حيناً  بعد حين؛ حول فمها الصغير المبتسم بحياء وكبر؛ حتى أمامنا نحن صغارها” وكنت أقول في سري دائماً؛ أن أرى في عينيها طيف دمعة، ذلك يعني أن الشمس لن تزورني في الصباحات المقبلة” لا أذكر ذاك الوجه دون تلك الابتسامة سوى بضعة مرات؛ حين كانت العلامات الدراسية لا تحقق آمالها، وأخرى حين سافر وحيدها لاستكمال تخصصه الطبي” ترى ما الذي كانت فعلته لو أنها شهدت على ساعات وأيام وسنوات تغييبه اليوم؟”.

ابتسمت دوماً حتى نهاية العمر، وبقيت تلك الطفلة ابنة الرابعة عشرة التي كانت تلعب أمام المنزل حتى موعد عودة الزوج من عمله، تدخل البيت، ثم يدور الزمن لتصبح في غفلة منه أماً وحيدة لثمانية من الصغار، تغلق بابها على وحدتها، وتجلس خلف آلة الخياطة القديمة، تدير عجلتها وعجلة للحياة جديدة.

……….

لكل ملائكته وقديسيه، كانت قديستنا على الأرض وباتت ملاكنا الحارس في السماء! ولعلها كانت وجه أمتي كما قال جبران يوماً “وجه أمي وجه أمتي” التي لو لم يقل سواها من كلمات لكفاه الزمان من قول، ولاكتفيت منه عمقاً ودلالة ورمزية بالغة المعنى والأثر، هل قالوا نصف المجتمع! أما كان عليهم أن يقولوا أم هذا المجتمع، وقد أثبتت حضورها في كل العصور؛ منذ نشأة الأساطير الأولى؛ حتى تاريخنا المعاصر، لا تقلّ شاناً عن شريكها في الحياة والمجتمع، كانت زنوبيا وبلقيس، أليسار وإنانا، وكانت الأم التي أنجبت بطلات لهذا الزمان من نورما إلى سناء محيدلي، وفدوى غانم وحميدة، وأمهات لأبطال اليوم رووا بدمائهم تراب الوطن، عضضن على الجراح، وأطلقن زغاريدهن، ليثبتن أنه لا يرقى الأبناء في أمةٍ ما لم تترقّ الأمهات فيه. وها هن الأمهات في بلادي، قد أنجبن أبطالاً خطّوا بالدم؛ على صفحات التاريخ المعاصر دروساً في الشهادة والبطولة، ها هنَّ في قلب صراع الوجود، مربيات أوائل في الأسرة والمجتمع، وفي ميادين التضحية والنضال فاعلات، وهنّ قبل كل شيء نبض الحضن الدافئ لأجيال النصر الآتي.

بشرى الحكيم