ثقافة

يا الله.. كيف تموت الأمهات..؟!

هي سيدة في السبعين من العمر تقريباً كنت ألتقيها أغلب الأحيان، وعلى الأرجح كل صباح تقف كشجرة زيتون قديمة قدم الغيم بجانب باب دارها، تنتظر أحد المارة ليهز جزع روحها فتسقط منها غلال الذكريات.. ألتقيها وأنا ذاهبة إلى المسرح أو للتسوق.. أنا لا أعرفها أبداً، لكن ثمة لغة أليفة وحواراً حنوناً كان يدور بين نظراتنا كلما التقينا، ولو على عجل.. اقتصرت علاقتنا الجديدة القديمة بذات الوقت على السلام وتبادل الابتسامات، وكأنها مفاتيح قلوبنا نحن الاثنتين.. فلكل منا رسائله المخبأة بجيوب ذاك الحديث اللامسموع، فابتسامتي لها كان يفوح منها الحنين لصباح أمي.. لقهوة أمي.. لانتظار أمي عند ذاك الباب عمراً، وبعض العمر ليعود الأحباب.. لرائحة أمي.. لكل أم تشبه أمي صانعة الحب بكل اللغات والنكهات والألوان.. ولكن ما كنت أجهله رسائل ابتسامتها الودودة والصادقة ابتسامة تفيض حباً وحزناً وو ..

كانت تستوقفني كعادتها لتضغط على يدي في محاولة منها أن ألبي دعوتها قائلة لي: (بالله تفضلي نشرب فنجان قهوة.. تفضلي عيني صباحك.. والله قهوتي طيبة كتير جربيها وشوفي..) ولضيق وقتي الذي لم يتسع يوماً لمثل هكذا زيارات منذ زمن، وكنت في كل مرة أعدها وأعظم يميناً أني سأشرب قهوتها الغالية تلك في يوم آخر.. لكن وللأسف لم يتسنّ لي ذلك ولم أنعم بمجالسة تلك الياسمينة العتيقة، ولا أدري إن كان هذا من سوء حظها أم من سوء حظي..!! أو ربما نحن الاثنتين لا نملك أدنى مقدار من الحظ..!.

كنت أروي لأصدقائي دائماً عن محبتي لتلك الإنسانة، وبأن شيئاً ما يشدني لها بقوة.. ومنذ يومين وأنا في طريق عودتي للبيت، لفت نظري وجود خيمة عزاء لم تكن موجودة صباحاً.. وبدأت أترحم وأقرأ الفاتحة لروح الشهيد الذي لأجله نصبت هذه الخيمة، فالحرب جعلت أزقة أرواحنا ومدننا تغص بتلك الخيمات والحسرات.. وفي المساء أخبرتني صديقتي بأن ذاك العزاء هو لسيدة سبعينية تدعى أم سعد، فرجوتها أن تصفها لي.. وما إن بدأت بوصفها حتى ارتسمت ابتسامتها الجليلة أمام عيني وأخذت دموعي تسبق كلماتي.. يا الله أم سعد ماتت؟!.نعم أعرفها وأعرف صباحاتها الهانئة جيداً.. يا الله ماتت ولم نشرب قهوة الصباح.. أي صباح..!.

ومن مكر القدر أخبرتني صديقتي أن ابنة أم سعد الوحيدة كانت تشبهني كثيراً وقد غيبتها عن الحياة يد الغدر الحقودة بتفجير إرهابي حدث في دمشق أودى بحياة المهندسة الجميلة ياسمينة عمر أمها وفلذة كبدها..

يا الله كم أنا غبية، ماذا كان سيحدث، أو كم كان سيمضي من وقتي الثمين التافه لو لبيت دعوتها وشربت فنجان قهوتها الذي طالما حلمت به، وكأنها ترتشفه مع ابنتها الحبيبة..

أم سعد الحبيبة أنا آسفة ما حييت لأني لم ألب دعوتك تلك.. أنا آسفة لأني لم أقرأ بابتسامتك ونظراتك حنينك وشوقك ولهفة قلبك لابنتك.. أنا أعتذر لك عن كل شيء.. وأنا لا علم لي بأي شيء..

سامحيني أنا منذ ساعات علمت سبب لهفتك علي..

يا الله.. سؤالي الأبدي.. كيف لك قلب أن تأخذنا من أمهاتنا أو تأخذ أمهاتنا منا..؟!.

يا للعجب كيف تموت الأمهات…؟!!!

لينا أحمد نبيعة