أميرة الكردي بين الدلالة التضمينية و”قميص الغيم”
عندما يتلاشى الزمان وراء السحاب، وتخلد النجوم إلى الراحة، يبقى ذلك المعنى يدور في غياهب الزمن اللازوردي، كي تحقق الغيوم الحضور الوجودي وتوازي الزمن الدائري بوصفها تحمل شيئاً بقوّة النقطة، وانعتاقاً للروح من استبداد المادة وشهواتها، والانفتاح على المطلق بكل تجلياته الصوفيّة.
من يستطيع أن يلبس “قميص الغيم”، أو أن يزرع في قلبه مقبرة، أهي نبوءة في طيها الحيوية والجمال؟ نقطة حزم، أو تباشير تعطر برذاذ الهوى الصوفي في زمن اللازمن؟ قبل أن نلمح الجواب في كتاب بارت درس السيميولوجيا, “النص بدعة وخروج عن حدود الآراء السائدة”.
تكشف الشاعرة أميرة الكردي في مجموعتها الشعرية (قميص الغيم) الصادرة عن مؤسسة سوريانا للإنتاج الإعلامي عن علاقتها الوطيدة بالقصيدة النثرية، متجاوزة بذلك حدود الغيم في تناقضات وفي خطوات المجاهرة بحريتها الفكرية، والارتماء في فضاء التلقائية والهلوسات، وخضاب الوهم، لتراقص خصر الغيم ويشكلا معاً الدهشة النهائية، حيث الرؤية الشعرية الحديثة، تخترق الشكل والمحتوى معاً، وتحقق بحساسيتها الشعرية حالات الوصول إلى الطرق الصوفية، لتفاصيل شكلت قميص الغيم، التي تثير بوح سوريانا عبر نفحات قلم الأديب د.حسن حميد والجهر-بالجمال:
“إنّها قصائد منجمات على شكل جزر، لكنها في جوهرها سطر شعري واحد يصرخ بنا مثل صرخة الأجراس أن ننتبه إلى الجمال البادي في الشروق”ص- 10
لكي ندخل إلى أي غيم/نص شعري يحتوي دلالات واسعة من الانزياح اللغوي، من أجل تحقيق لحظة الحضور المعنوي لهذا القميص/النص/الغيم /الجسد.
يتوجب أن نعرف التوجه الدلالي لهذا الانزياح، وهذا يجعلنا نتدرج في الوصول إلى الفهم المعنوي في اختيار المعنى ووفق الكلمات التي تقارب أحاسيسها.
حيث أن الرومانسيين قد اهتموا بالخيال وأثره في تكوين الصورة الشعرية وكما قال الشاعر المتصوف وليم بليك:”إن الصورة الكاملة التي يبدعها الشاعر لا يستخلصها من الطبيعة وإنما هي تنشأ في نفسه وتأتيه عن طريق الخيال”.
و بهذه الرؤية المقدسة تعلو الذات الشاعرة الواقع الحسي، وتثير مشاعر القلوب المترامية خلف خيبات عالم الأبدية، وبنبض سؤال لا يموت تحرك الصور المتداخلة إلى حدود جزء من نص مفقود بالتخيلات الصوفية.
“وحيدةٌ أنا
فلا تقلق
وهبتُ آخر الضحكات
لغيمةٍ عاقر”ص-11
وهي من هذا التوحد تبتعد كل البعد عن الإشارات التقريرية، وتدخلنا في محراب الفكرة وجوهر الحالة الرمزية، وفي تخيلات الصورة الشعورية واللاشعورية، التي تتنفس بعض أوطانها، وتراقص الغيوم في بعض حروفها، لسان الحكايات الشهرزادية القديمة والحديثة معا:
“أنا فكرةٌ حمقاء
رمتْ في دوامة المسافرين
حرفها..
فراشةٌ شاردةٌ
في زمنِ الجاهلية
والخوفِ والبارود
فقأ عينيَّ سربُ
جرادٍ ممسوس..
فكيف أرى؟-13
وتقترب (الكردي) من حدود الذي يغلّف السّر والأسرار في أزمنة الغدر والحرب ،إلا أن نبوءة الياسمين قادرة على إشعال الشوق وإنبات الزهر في القلب المهجور:
ما ذنبي الآن؟!
إذا الشمس بأصابعي
اقترنتْ
وتوالدَ الياسمينُ عطراً
في قلبي وفاضَ
إذا ما الريح على وقع قدميَّ
تميلُ”ص-14
ولهذا تتجه في هذه المجموعة (قميص الغيم )لإطلاق أسئلتها، بشكل غير مباشر، تجاه القضايا الإنسانية المحاصرة بالفكر الإقصائي:
“إذا النجوم احتلت مساحاتِ
الجسد
واهتزَّ على خلخالي
خصرُ المطر
ما ذنبي
وأنت من خان
القسم..” ص-1
وتثير في رمزيتها الشعرية “أشياء وأشياء”، تساؤلات صوفية الهوى المتجذرة في الأرض والسماء، فهي لا تقع في سكونية البعد المتلاشي بين الألف والياء، وإنما تصل بالجوهر الإنساني وفق مفهوم النص المفتوح الذي نادى به أصحاب الحداثة وفي طليعتهم رولان بارت.”فاللغة عند الكردي” كلغة المتصوفة نسق كبير ومتعدد لرموز ذات طابع تصويري غامض وخاص ولاسيما حين ترتبط بنظرية الفيض (1)
“لم أشأ
تغيير المفردات
قد اكتفيتُ
بثمانية وعشرين حرفاً
قبل اللقاء
وبعد اللقاء” ص-53
وتطلق الدلالة الرمزية دون أن تجعلها بديلة عن قميص الغيم بخلق فني وأدبي يرسي لغة الاتصال والإيحاء في كلماتها ومفرداتها ،لتنقل المتلقي بلغة جمالية بعيدة الإيحاء:
“أطلقني لأعود إليك
انسكبْ
ياسرَّ صوتك
وويح قلبي
ويرتد الصدى
يا أهلا ومرحبا
من حيث أنت وبلا سبب
يا سرَّ اسمك
ومدد الأولياء انهمر ص-75
ورغم يتم الذاكرة ، و عجز الروح، تغدو التراكيب والأساليب من جنس الألفاظ ودلالتها، وكلها تجليات للحس والفكر، لتبرز الذكريات والأصداء ذات جمالية جذابة ممتعة في المفارقات الملغزة بين الفعل والانفعال و العقل والعاطفة، والمدرك والغيبي وأضحى “قميص الغيم” قميصاً معنوياً لعالمٍ غير متناهٍ.
“أشهد بالنون وبدأ التكوين
بقلوب عصافير التين
أشهد برجلٍ وفى بالوعد
بامرأة ذابت بالوجد
أشهد بالسكر والملح”ص-39
هنا يصبح لقميص الغيم وجوه بلاغية ودلالية ،تدل على “أشياء وأشياء”، وكلها تدل على مدى انعكاس مرايا الأحلام التائهة والآمال الشاردة في الغيوم:
“تربكني التفاصيل وحرب الكلام
أربطة العنق المزيفة كثعبان يتدلى
حشوة الأكتاف الأسفنجية وكأنها سنامُ بعير
لستُ أدري ما الشبه بينها وبين فرعون”ص-93
وآثرت الشاعرة أن تستجدي الأغنياء وألا تخاطبنا إلا من باب الرمزية التي تتجسد عبر التفاصيل اليومية وحرب الكلام ،ومن معايشة زمن الرعب والقلق، وقد استطاعت أن تقدم نصا شعرياً متكاملاً في قصيدة النثر، بوجدانية عالية التصور الاستعاري الحاضر ضمن غيومها/رموزها التي أنشأتها.
“سآتيك أحمل عمريَ المشروخ
ورجفةَ أعماقي القصية
غيرتُ جلدي
لابسةٌ قميص الغيم
لأهطل ورداً
لكن مائي فسد
بمستنقعات الليل.”س126
وبما أنني أحب المغامرة، فقد اخترت الاقتراب من “قميص الغيم” بغرض إدراك السياق الرؤيوي الذي تنتظم فيه عاشقة الياسمين. ولعل الدخول في هذا الزمن المخمور إلى هذا العالم العطري المثير، وعلى أرض زئبقية ، يحتاج إلى عصا سيد الأماكن، وإلى جرأة قوية بنفس درجة ما يحتاج إلى مفاتيح وظيفية قادرة على فك شفرات النصوص، وقادرة على إحداث فجوات يتسلل من خلالها القارئ لاستنطاق دلالاتها القريبة والبعيدة، ولتفكيك بناها العميقة بكل ما تتضمنه من متخيلات وإيحاءات جمالية.
“دثرني بين شفاهك
كحبات القمح في السنابل
دثرني
هلامية الملامح منذ رحيلك
والأرض زئبق يرتج
لماذا ختمت على قلبي
بشمعك الأحمر؟”ص-85
فقميص الغيم لشاعرتنا لا يمكن فهمه أو التحاور معه أو اختراق جداره إلا باستيعاب تام للسياق النفسي والفكري الذي ينتظم هذا الإبداع، والذي يشكل الخلفية الذهنية لتوءم النور.
“منذ التقيتك
وأنا ابنة الحمر
لهفتي انتظار”ص-129
“لست زليخة ولا كيد لي
يارجل الثلج الأسمر
أنا ألف أيوب
وأنت ألف شهريار”ص-130
وصفوة الختام: حينما تتعلم الروح كيف تختزل مساحات الهوى بضمة ياسمين، وحينما تتألق همهمتها وتصبح حبلى ببديع الصور ممزوجة بعطر الأرض والشواهد والتاريخ، يجد القارئ المتذوق للياسمين نفسه مشدودة إلى محاورة تلك الياسمينة المتلبسة “قميص الغيم” من أجل الاستماع إلى الأصوات المنبعثة من لهاثها وارتشاف رحيق العشاق الكامن في أعماقها، ولا بد يجد نفسه متوثبة للتعرف على الأنامل المبدعة التي حركت الهواء واستفزت الخيال وتفننت في صياغة “قميص الغيم”. للشاعرة أميرة الكردي الصادر عن مؤسسة سوريانا للإنتاج الإعلامي.
(1) البنية الجمالية في الفكر العربي -الإسلامي 11-69
أحلام غانم