مع بدء عرض مسرحيته “قصة حديقة الحيوان” حسن عكلا: البحث عن نقاط التلاقي كي نعيش مع الآخر
لجأ المخرج المسرحي حسن عكلا في عمله الجديد “قصة حديقة الحيوان” والذي بدأت عروضه أمس الاثنين على خشبة مسرح القباني إلى نص كتبه إدوارد ألبي باعتباره نصاً يتحدث عن عزلة الإنسان واغترابه في المجتمعات الرأسمالية ونصاً كتب ليعيش في كل الأزمنة، وبيّن عكلا أنه يعالج هماً له علاقة بشخصيتين فاقدتين للتواصل الاجتماعي نتيجة الاختلافات بينهما على الصعيد الفكري والثقافي رغم أنهما تعيشان حالة اجتماعية متشابهة على المستوى الطبقي، فهما ورغم محاولتهما طيلة العرض المسرحي خلق حالة من التواصل بينهما إلا أنهما تفشلان في ذلك لأن لكل واحدة منها مرتكزاتها الفكرية والإيديولوجية، ومفاهيمها الخاصة للحياة والعلاقة الإنسانية التي لا تريدان التخلي عنها ليكون الفشل مصير هذه المحاولات والاصطدام بحتمية عدم اللقاء، وقد دفع هذا الإخفاق في تحقيق التواصل إلى حدوث شجار غير مقصود أدى لحادث مؤسف غير مقصود أيضاً، ولم يسعيا إليه بشكل مباشر لتُقتَل شخصية على يد الأخرى بشكل خاطئ نتيجة المرتكزات النفسية والحالة الانفعالية لإحداها، ليقول عكلا في المسرحية أن على الإنسان أحياناً أن يتخلى عن الكثير من قناعاته ومفاهيمه التي تشكلت في زمن ما لأن الزمن متحرك والإنسان يجب أن يتبدل كما الحياة التي تتبدل حوله، وبالتالي من الخطأ الوقوف في المكان نفسه، وأكد أنه على الإنسان أن يتغير ضمن رؤية فكرية وثقافية وأخلاقية حتى يستطيع أن يعيش مع الآخرين من خلال البحث عن نقاط توافق وخلق صيغ مشتركة ليعيش الجميع ضمن منظومة القيم الجميلة: الحب، الخير، والجمال، وأوضح أنه لا يدعو في مسرحيته لأن نكون جميعاً نسخة واحدة، فلكل واحد منا منظومته الأخلاقية والاجتماعية التي تميزه، بل يدعو إلى البحث عن نقاط التلاقي التي تجمعنا ولا تفرقنا حتى لا نُحوَّل إلى أنماط.
المحرق الدرامي
ويؤكد عكلا أن شخصيات العمل واقعية وليست نماذج، إلا أننا لا نصادفها دائماً في حياتنا، وهي شخصيات لا تفصح عن ذاتها دوماً وعلى خشبة المسرح-المحرق الدرامي تُرِك لها المجال لتتعارك على عدم إمكانية تحقيق التواصل لنكتشف أنه لدينا الكثير من الأشياء المسكوت عنها وغير المعروفة لدى الآخر، ليشاهد المتلقي وهو يتابعها كيف أننا أحياناً نتصرف مثلها، وهذا ما سنكتشفه من خلال حالة الجدل والحوار القائم بين الشخصيتين، وبيّن أن هذا الجدل نشاط فكري لنظم العلاقة بين ما يحدث على الخشبة والجمهور.
ويميل عكلا في مسرحيته إلى تشريح الحالة لتشخيصها على خشبة المسرح دون أن تكون التفاصيل مسماة بمسمياتها، لذلك يقول أننا وفي ضوء ظروفنا من الضروري أن نعيد النظر في أنفسنا ومشكلاتنا الاجتماعية والثقافية، من خلال مراجعة شاملة لرؤيتنا للحياة لتوسيع نطاق هذه الرؤية بهدف أن نرى بعضنا البعض عبر حالة كشف علنية نجريها ونعلن فيها وجهة نظرنا أمام بعضنا لنتعرف على بعضنا، لأن لا أحد يفصح عن نفسه إلا إذا شعر أن الآخر يتفهمه ويستوعبه، وبهذا نستطيع أن نشكل وجهة نظر مشتركة منهجية ليست مزعومة عن أنفسنا والحياة، لنعيش في النهاية ضمن مجتمع سليم.
استعراض العضلات
ولتجسيد مضمون العرض بالشكل الأمثل فنياً حرص عكلا على إعطاء الأولوية للممثل ليكون عنصراً أساسياً من خلال التأكيد على ضرورة تبني الشخصية بكل ما تحمله من قناعات ومفاهيم فكرية وثقافية واجتماعية، والابتعاد عن تجيير ثقافته وتحميلها للشخصية، وخلق شخصيات هي نتاج فهم مشترك بينه كمعدّ ومخرج وبين الممثلين، من خلال إعطاء الفرصة للشخصية بأن تستنفذ أغراضها، لذلك لم يكن المطلوب من الممثلين أن يتبنوا الشخصية ويتماهوا معها بل أن يشرّحوها ويديروها، وهذا ما جعل المخرج عكلا يعتمد أسلوباً في الإخراج يكون فيه أبعد ما يكون عن الثرثرة البصرية حرصاً على عدم إشغال المتلقي بأشياء على حساب فكر ومضمون العرض، فكان التركيز الشديد في عمله على رسم حركة دقيقة للممثلين بشكل لا تشغل بال المشاهد ولا تشتت تركيزه على ما يدور بين الشخصيتين، بحيث تكون منظومة العلاقة بين الممثلين والمكان لها علاقة بالحدث وليس بأشياء أخرى، وهذا تطلَّب من الممثلين أداء هادئاً ورصيناً يتيح إعمال الفكر ضمن الواقع الانفعالي والذهني والعقلي للشخصيات، وصولاً للذروة الدرامية والإفصاح عن خاتمة تقول: “ماذا فعلنا؟ وقد كان ينبغي أن نعيد النظر في علاقتنا مع بعضنا كي لا نصل لهذه النتيجة” من خلال لغة عرض بسيطة اعتمدها المخرج على صعيد الديكور والموسيقا التي افترضها بمقترحات هامة الموسيقي المعروف رعد خلف.
ولم يقع عكلا في هذا العرض في مطب استعراض العضلات، فالإخراج لديه يقوم على وضع خطة ضمن إطار رؤيته الفكرية والجمالية دون اللجوء إلى الثرثرة البصرية ليبقى في حدود رسم التفاصيل الموجبة للعرض المسرحي على المستوى البنيوي وأداء الممثل، معترفاً في الوقت ذاته أن كل نص مسرحي يستلزم أسلوباً في المعالجة الإخراجية، وهو بالعموم ضد فكرة استعراض العضلات ومع فكرة أن ينشغل المخرج بإعادة خلق عرضه المسرحي بوحدة عضوية متجانسة بكل عناصرها، بحيث يتعاطى المتلقي مع رؤية لها وحدتها البصرية والفكرية والنفسية لأن العرض المسرحي –برأيه- موحد شعوري بينه وبين المشاهد، وفي مسرحية “قصة حديقة الحيوان” كان عليه أن يستعرض إمكانياته بأن يقدم موضوعة بهذا المستوى وأن يحتفي بالعرض ويدخل في تفاصيله ويحرك الأحداث ويشرحها دون أن نراه مستعرضاً لقناعته أن الإخراج المسرحي يتجلى في نسغ العرض المسرحي، يديره المخرج في الخفاء ومن الداخل، وهذا ما قام به، حيث كانت مهمته كمخرج خلق أفق للممثل بأن يتحرك ضمن تشكيل مسرحي متوازن بصرياً ومدروس على صعيد الفضاء المسرحي، ومنسجم مع بعضه ويتيح له أداءً دون أية إعاقات قد ينشغل بها.
وعلى صعيد اختياره للممثلين المشاركين يبيّن عكلا أنه عندما أعدَّ النص لم يكن بذهنه أي ممثل لقناعته بأن النص هو الذي يستحضر ممثليه، خاصة أنه ليس من الكتّاب أو المخرجين الذين يعملون من أجل ممثل معيّن، لكنه وهو يشتغل نصاً أعده -والإعداد بالنسبة له مشروع إخراج- بدأت تتفتح ملامح الشخصيات لتبدأ كل شخصية باستحضار ممثلها بعيداً عن الضجيج.
أنسنة المسرح
لا يخفي عكلا أن مهمته في إنجاز عرض مسرحي هادئ كانت صعبة في عصر الميديا والتقنيات الحديثة التي لا يرفضها حين تؤدي أغراضها، حيث سيأتي الجمهور ليرى عرضاً مسرحياً وممثلين لا شاشات عرض ولا دخاناً ولا مؤثرات صوتية بعد أن أصبح الجمهور مشبَعاً بذلك، ليأتلف مع أنسنة المسرح بعيداً عن الضجيج لأن عكلا يطلب مشاهداً هادئاً مستقراً يأتي إلى الخشبة ليرى محرِّضاً هادئاً يحاكيه بسلاسة كما لو أن الشخصيات تعيش حيةً أمامه ليعاملها بفكره وعقله.
أما السبب الذي يجعل عكلا يقدم العرض مع الفنان عبد الرحمن أبو القاسم الذي سبق وأن شارك في تقديمه مع الفنان زيناتي قدسية عام 1976، فيعود إلى رغبته في معرفة كيف يستطيع الممثل أن يستفيد من تجربته المضاعفة، حين يعيد تشخيص شخصية سبق وأن أداها بنجاح مع اختلاف الرؤية والأسلوب والأهداف الجديدة للنص، وأشار إلى أن أبو القاسم اكتشف بأنه شخص جديد في العرض، وكذلك الفنان محمود خليلي الذي وقع عليه الاختيار كممثل استثنائي يستطيع تركيب الشخصية وتنفيذها كما تريد هي لا كما يريد هو، وقد تجليا بحضورهما المشخص بالأدوار وهذا إنجاز للجميع، بعد أن عوّل عكلا على خبرتهما وقدرتهما ونزاهتهما النفسية في التعامل مع الشخصيات بكل إخلاص، والانتصار لدواعي العرض المسرحي لا لتأكيد نفسيهما.
أما المخرج عكلا فيعمل في المسرح منذ طفولته في حمص وأصبح ممثلاً في المسرح القومي بدمشق عام 1968،ومنذ ذلك الحين وهو يقدم أعمالاً مسرحية ممثلاً ومخرجاً، وفي عام 1972 شكّل فرقة في دمشق مع الفنانين زيناتي قدسية ويوسف المقبل والراحل حسن دكاك وغيرهم، واستلم عام 1982 إدارة المسرح الجامعي، كما كُلِّف برئاسة نقابة الفنانين في المنطقة الوسطى وأسس مهرجان حمص المسرحي والعديد من المهرجانات المسرحية كان آخرها مهرجان المونودراما في اللاذقية.
أمينة عباس