ثقافة

أحمد دحبور.. زارِعُ اللّوزِ الأَخْضَر

كغيره من أبناء فلسطين الذين دفعتهم النكبة عام 1948 للرحيل عن قراهم ومدنهم، لم يفارقه حلم العودة إلى الحضن الأول، حلم زادته قسوة الحياة التي يعانيها اللاجئ في المخيمات إلحاحاً، وكغيره أيضاً لم يرَ فيها إلا مرحلة مؤقتة أو معبراً للعودة إلى الوطن، مهما طال الزمن، معبراً للعودة إلى الجزء المتاح من الوطن، وهو استمر يقول حتى أوان عودته؛ عن غزة والضفة “الجزء المتاح لنا من الوطن”.
في حيفا وقبل النكبة بزمن قصير؛ ولد أحمد دحبور في العام 1946، لتقتلعه الكارثة مع الكثيرين من أبناء فلسطين من أرضهم؛ ينتشرون في البلاد المتناثرة في أصقاع الأرض: “لم يشعل لي أهلي شمعتين احتفاءً بعيد ميلادي الثاني، إنما حملوني وهاجروا بي في المنافي” نشأ ودرس في مخيم حمص للّاجئين الفلسطينيين بعد رحلة تهجير بدأت إلى لبنان ثم إلى سورية. لم يتلق تعليماً أكاديمياً كافياً، لكنه كان قارئاً نهماً وتواقاً  للمعرفة، فصقل موهبته في الشعر التي كرسها وسيلة للتعبير عن مرارة الجرح الفلسطيني، بالقراءة والاستزادة من عيون الشعر العربي القديم منها والحديث. وهو إذ يصف في أشعاره، الحياة التي عاشها في المخيمات يقدم لما دفعه للانحياز إلى الفقراء والمتعبين في الأرض، ليس للاجئين منهم فقط، بل كل المتعبين على السواء:
“كان لوالدي الشيخ مهنة غريبة، فقد كان يغسل الأموات ويقدمهم للدفن، وكان يسحّر في رمضان، ويقرأ القرآن على القبور، وكان هذا يعطي انطباعاً في المخيم أننا أسرة على علاقة وطيدة بالموت، كنا فقراء إلى حد يصعب وصفه، ويمكن القول أننا كنا أفقر أسرة في المخيم” ثم يتابع: “كنا أسرة كبيرة العدد، ولم يتوفر لنا إلّا غرفة واحدة، حتى أن أخي الكبير عندما تزوج اضطر إلى وضع ساتر قماشي بيننا وبينه هو وعروسه في الغرفة نفسها”.
“اسمي أحمد
وأبي من يغسل موتاكم
ويسحرّكم في شهر الصوم”
نحن نعرف والدك الشيخ خضر وبالتالي عندما نقرأ هذه القصيدة نعرف معناها تماماً، أمّا الناس خارج المخيم الذين لا يعرفون والدك كيف تعتقد أنهم فهموا هذه القصيدة؟ يسأله المحاور؛ ليجيب: “ببساطة هناك نظرية في علم الجمال.. بقدر ما تكون وطنياً تكون إنسانياً. وبقدر ما تكون مخلصاً للذات تكون مخلصاً للموضوع”.. “فأنا اسمي أحمد وأبي كان يغسل الموتى فعلاً وكان يسحّر الناس في رمضان ما عدا ذلك يتّسع كلّ شيء” هكذا يوصّف منهجه الشعري.
مع تألق واشتداد عود الثورة الفلسطينية؛ كبر واشتد عوده ونما وعيه وحبه للكتابة  والشعر، صحيح كتب عن قسوة المخيمات، لكن الضوء الذي امتلكه في يده كان مسلطاً على صورة الفتى الرافض للذل والمهانة:
اسمع، أبيت اللعن راوية المخيم
افتح له عينيك وافهم:
هذه الخرائب والمجاعة والخفوت
هذي الإعاشة والصدى الخاوي وأشباح البيوت
فيها كبرت، بها كبرت
وفوضتني عن جهنم.
في أكثر من مناسبة، برّر دحبور إغراء مغامرته الشعرية التي استهوته؛  بأول “درسٍ” تلقاه على يد “أستاذه” الشاعر موريس قبق، وهو ما شكل منهجه: “أن تكون شاعراً يعني أن تكون شخصاً مختلفاً، لا بمعنى السلوك المباشر أو الثياب أو الهيئة؛ بل هنا في الداخل، أن تتأمل وتقرأ، أن تكون لديك قدرة على تمزيق ما تكتب، أن تحذف وتضيف، أن تعي مسألة الوحدة الموضوعية والوحدة العضوية في القصيدة… ألّا تكتب ما هو سهل ومألوف، أن تبتعد عن الكليشيهات والتعابير الجاهزة”.
“أنا الولد الفلسطيني
أنا الولد المطل على سهول القش والطين
ويوم كبرت.. لم أصفح
حلفت بنومة الشهداء، بالجرح المشعشع فيّ: لن أصفح”
من قصيدته التي بات يكنى بها “الولد الفلسطيني”.

تجارب وأعمال
إضافة إلى الشعر عشقه الأول، كتب دحبور في النقد الأدبي والمسرحي والسينمائي، كانت له تجربة الكتابة للتلفزيون من خلال مسلسل “عز الدين القسام” الذي أخرجه هيثم حقي، بينما دفعه شغفه بالصورة والكاميرا وعالم السينما، إلى تجربة لم يكررها في الوقوف أمام الكاميرا كممثل للدور الرئيسي في فيلم روائي قصير “الناطور” الذي أنتجته دائرة الثقافة في منظمة التحرير في العام 1988 في تونس، كما كتب أغاني لفرقة العاشقين الفلسطينية وشارك في إدارتها التي كانت من التجارب الناجحة في عالم العمل الجمعي والجماعي، والتي بدأت في العام 1977، أنتجتها الصدفة حين كان يتم العمل على مسرحية “المؤسسة العامة للجنون” من تأليف سميح القاسم وإخراج الراحل فواز الساجر، الذي اقترح أن يتم تزويد العمل ببعض الأغنيات التي يمكنها أن ترفع من مستوى العمل الدرامي، عمل عليها أحمد دحبور الذي اختار من النصوص التي كتبها “والله لزرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر” التي وضع لحنها الموسيقي الكبير حسين نازك،  ليكون النجاح الشعبي اللافت للأغنية، الدافع لتشكيل الفرقة التي نالت من الانتشار والشهرة الكثير، ليتلوها الكثير من الأغاني التي مازالت حاضرة في الأذهان، وسقت شهرتها صاحب الكلمات، “دوس منت دايس عالزناد، اشهد يا عالم علينا وعَ بيروت، وجمّع الأسرى جمّع في معسكر أنصار، ووردة لجريح الثورة، وهبت النار والبارود غنى، وأبو إبراهيم ودع عز الدين، وفي كل بيت عرس ودمعتان، والعديد من المواويل والأغاني الثورية”..
عمل دحبور مديراً لتحرير مجلة “لوتس” حتى عام 1988 ومديراً عاماً لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية، كما كان عضواً في اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، حاز على جائزة توفيق زياد في الشعر عام 1998. من أعماله “الضواري وعيون الأطفال- حمص 1964، حكاية الولد الفلسطيني- 1971، طائر الوحدات 1973، بغير هذا جئت 1977، اختلاط الليل والنهار 1979، واحد وعشرون بحراً 1981، شهادة بالأصابع الخمس1983، ديوان أحمد دحبور 1983 والكسور العشرية”.

الحج إلى حيفا
في العام 1996 سيعود دحبور إلى أرضه في زيارة، سيحج إلى البيت الذي لم يعرفه إلا من حكايات جدته وأمه، سيطمئن قلبه إذ يعرف أن عتبته لم يدنسها إسرائيلي، سيُطمْئِن روحه التي كانت تعلقت بحيفا من الحكايات والصور، أن هذا الجمال ليس خيالاً، بل إن الوطن لهو أجمل وأكثر بهاء من الخيال بكثير، لكنها عودة الزائر التي أتاحها تصريح مؤقت:
وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي
ولكن كلما دنا بَعُد ؟
حيفا، أهذي هي؟
أم قرينة تغار من عينيها ؟
لعلها مأخوذة بحسرتي
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها ؟
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد.
لاحقاً ستكون غزة خياره “مما أتيح له من وطن” وفي القلب غصة:
“قال لي صاحبي: أدرك التعب القافلة
فمزيداً من التعب
إن غربتنا في قطار الدم العربي
تقتضي أن نواصل رحلتنا الشاملة
الطريق معذبة
وفلسطين ليست فلسطين إلا إذا طلبت كاملة”
سيعود إلى غزة لقربها من حيفا، بعد أن نال منه التنقل والتهجير، لكنه في رام الله؛ وفي الأمس القريب القريب، لملم ما تبقى من أوراق حياته، تأبط تعبه وآلام المرض ورحل.

بشرى الحكيم