أورخان ميسر.. شاعر في ثياب شجرة
قلة هم اليوم من سمعوا بالشاعر الحلبي الفذ “أورخان ميسر” 1914- 1965 الذي طافت قصائده وأعماله أوروبا عن طريق الترجمة، إلا أن أي مرجع شعري خلال مراحل الدراسة لن يضم في طياته اسم هذا الشاعر، ونتاجه الشعري المهم جداً، باعتباره، وحسب رأي العديد من النقاد، الأب الشرعي لقصيدة النثر السورية، والأكثر غرابة أنه ما من ذكر له في صحفنا الثقافية، وباقي منابرنا الإعلامية التي لا تتردد في الحديث عن كل الأسماء الشعرية، سواء تلك التي هي حقاً تستحق هذه الصفة، أو تلك التي لا “شعري” فيها إلا صفتها التي يطلقها عليها هذا الصحفي، أو تلك المذيعة!.
وعندما يذكر كبار شعراء قصيدة النثر في سورية كالماغوط، وأنسي الحاج، وأدونيس، ويوسف الخال، وغيرهم، يغيب ذكره تماماً، كأنه لم يكن من السباقين إلى كتابتها، والعمل على جعلها من مفردات الثقافة السورية اليومية، كما كان الحال عند بدايته في الاشتغال عليها، بعد تأثره الكبير بالعديد من الترجمات الشعرية الغربية، والمنثور العربي عموماً، والذي كان يعامل حينها بريبة لطغيان القداسة التقليدية لما هو سائد.
“إن ساقي مشلولة، وهذه الأحلام التي تحاول أن تجنِّح جسدها المبتور، سيتلاشى لهاثها، إِذْ ذاك، دعني أحلم في صمت”.
قلة أعماله الشعرية لم تمنع أن تكون أصالة نتاجه الفكري شكلاً ودلالة حاضرة وبقوة فيها، حيث حرص “ميسر” في نتاجه الأدبي عموماً، والشعري بشكل خاص، على الإعلاء من شأن الخيال الشعري، والرؤية الذاتية للوجود والأشياء، والشعور بالعزلة، والانطواء، والاغتراب النفسي، والغربة المكانية، والحزن، والسكنى إلى شاعرية الأحلام والرؤى، مفردات ذاتية جعلت من قصيدته مثلاً فريداً للشاعر الحر، العارف بمكامن الضوء الباهر في عتمة التقليد الأعمى والمحاكاة المستلبة، ويعتبر كتابه “سريال” واحداً من الحجج الشعرية في قصيدة النثر، ولا مبالغة بالقول: إن قصيدة النثر السورية لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه، لو لم تكن خطواتها الأولى، مشت على الطريق المضني الذي اختطه هذا الشاعر الفذ مع بعض الشعراء الذين تقاسموا معه الهمّ الوجداني نفسه كرغيف أخير، ومنهم “ثريا محسن، نقولا قربان، علي الناصر، خير الدين الأسدي صاحب أغاني القبة” وآخرون. شعراء حقيقيون، غلّف شعرهم حزن شفيف ينذر هدير سطحه بأعماق بعيدة، وتعد كتابات هؤلاء الشعراء بحق المهاد الجمالي لقصيدة النثر العربية المعاصرة.
“أجل إنَّ أعماقي تعرفُ الطريق/ طريق النور/، فقد ألفتها عينايَ قبلَ أنْ تتفتَّحا للشمس/، واحتضنَ دفئها قدميّ قبل أن تنتعلا اللهب”.
طرح مؤلف «الرقص في أمريكا» مفهوماً جديداً وغريباً في الشعر السوريالي من خلال تأكيده على أن اللغة في الشعر السوريالي لغة علمية، فيما هي في بقية أنواع الشعر لغة أدبية. بمعنى أن لغة العلم لا تسمح بالعواطف، لأنها تدخل في مجال الاكتشاف أكثر مما تدخل في مجال الإبداع، حيث يعتبر “ميسر” أن الفن الصحيح هو الذي يرسم الانعكاسات التي تتولّد نتيجة للتفاعل بين نضالنا الخارجي وذاتنا المجرّدة، بعيداً عن دائرة المنطق، وبعيداً عن التأثر بأي توجّه فكري، كما أنه وضع الشعر هدفاً جوهرياً له، بحيث تحلل من كتابة الشكل الشعري السائد، ساعياً إلى إنتاج نصوص تتسم بالشعرية المتوهجة، والفرادة الخالصة، سعى محموماً بالشعر إلى كتابة نوع شعري آخر خارج مجال الوزن والقافية، بل وخارج إطار الصيغة الشعرية الموروثة التي جرت عليها العادة في شعر ذلك الزمان، حيث امتازت قصيدة صاحب «مع قوافل الفكر» بالعديد من المزايا التي أعطته لقب رائد قصيدة النثر العربية بجدارة، ومنها التخلص شبه الكامل من العبارات النثرية المسجوعة، والتوجه لكتابة القصيدة النثرية على أنها قصيدة في المحل الأول، لا قطعة نثرية، أو مقالة أدبية نثرية، كما أنه عمل على ما يسمى بالكتابة التخييلية الشعرية، التي تتخلى عن الاستطراد والاسترسال والتداعي الذي يعوق بنية القصيدة الفنية، متحولاً ببراعة فراشة من التقرير إلى التساؤل، ومن المباشرة إلى الإيحاء، ومن الكتابة الصدفوية إلى الكتابة المنظمة ذات الأثر الدلالي من خلال التكثيف، والإيجاز، واختيار البنية القصيرة للإفضاء بمكنوناته الشخصية، ففي قصيدة “خيبة” تتجلى واضحة تلك القيم الشعرية الذاتية التي انسابت تراكيبها اللغوية وإيحاءاتها الشعرية بسلاسة نبع يشكو مياهاً، حيث يقول فيها: “ليتك بقيت ظلاً، ظلاً أعطيه كل حصيدي من الألوان والأشكال والخطوط غير أنك أبيت إلا أن تعري الأضواء التي عكستك ظلاً، فانقلبت امتداداً لخط يتموج تموجاً شفافاً، فلا بقي ظلك ولا بقي حصيدي”.
عاصر الشاعر «ميسر» تحولات شرق المتوسط المصيرية من المدّ الاستعماري ودويلاته المفبركة إلى ما بعد الاستعمار ودوله المصوغة، فبعد أن أنهى دراسته في أمريكا عاد إلى مدينة حلب وهناك ساهم في تأييد الحركات الوطنية ضد الانتداب الفرنسي، وقام بفتح صالون -دارته- لاستقبال الأدباء والمفكرين لتداول الأفكار والسجال عن المجريات الاجتماعية والتطورات السياسية والشؤون الثقافية، وفي قصيدة تعتبر من أرفع وأسمى ماكتب، يقول هذا السوري العتيد:
بلادي يا أسطورة تجترّها أسطورة/يا أرزة يعانق أنفاسك النرجس والريحان/بلا لون ولا رائحة/يا قمّة تطأ القمم، يا قمّة بلا قمّة/يا عطرها الممزوج بشهقة دم/بشريحة جلد، بولولة أرملة، بزفير دنّ، بحلم بنفسجة.
له ديوان عنوانه: «سريال وقصائد أخرى» – منشورات اتحاد الكتاب العرب (ط2) – دمشق 1979، وقد صدرت طبعته الأولى في حياة المترجم عام 1948. وله في مجال التأليف: «مع قوافل الفكر» – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1974، و«شوقي وعصره».
تمّام علي بركات