ثقافة

ميسلون.. المكان والزمان

بالتأكيد؛ كان يعلم مآل معركته التي اختار أن يخوضها؛ لكنه أيضاً كان يعلم أنه لا بد لكل انتصار قادم؛ من يد تعبّد الطريق إليه وإن بجسدها ودماها، وأنا أعلم أنه يمكن  لبعض الأرواح أن  تكتب الشعر، وأن البعض الآخر يحرص أن يجسده حقيقة على الأرض:
تقضي البطولة أن نمد جسومنا
جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا
كان يعلم أن الأرض التي تفتح أبوابها للمحتل دون مقاومة تمهر بالتقاعس والذل صك بقائه الطويل، وأن ترحيله واقتلاعه عندئذٍ لن يكون بذات السهولة.
ولذا بقي يوسف يرقب عدوه ومجريات المعركة المقبل عليها، رغم يقينه أن لا تكافؤ يحكم بين طرفيها إلا بالإيمان، لا تكافؤ بين ثلاثة آلاف جندي متطوع فقير السلاح، في مواجهة ما يقارب التسعة آلاف من الضباط والجنود الفرنسيين المدججين بالدبابات والمدافع والطيران وكل سلاح حديث متاح، وحين لم تلب الألغام التي زرعها على جسر العبور الوحيد آماله؛ تصدى بصدره وبندقيته السلاح الوحيد المتبقي “وكيف لبندقيته أن تحميه في وجه دبابة أطلقت نيرانها” ليتناثر دمه فوق التراب الذي أبى أن تدنسه أقدام المحتل وفي صدره قلب ينبض، مسجلاً واحدة من وقفات عزٍ ليس للتاريخ إلّا أن ينحني لها، ولتكون الإلهام لكل المؤمنين بالحق والتراب:
عرفنا يوم يوسف مبتداها       فهل من مخبر عن منتهاها
أيوسف والضحايا اليوم كثر     ليهنك كنت أول من بداها
مصيبة ميسلون وإن أمضت      أخفّ وقيعة مما تلاها
فما من بقعة بدمشق إلا        تمثل ميسلون وما تلاها
هو خليل مردم بك يخاطب يوسف العظمة، وقد لا مست روح البطولة قلمه، كما لامست ريشة عبد الله يوركي حلاق إذ قال:
ما مات يوسف فهو في تاريخنا              وقلوبنا حيّ البسالة طيّب
الخلد يعرفه ويعرف أنه                      نغم على شفة الإباء مطرب
ويأخذ الاعتزاز بـ إلياس فرحات أن يجسِّد وقفة العز بالقول:‏
قولوا لغورو كلّما لَمَعَتْ  أزرارُهُ فاختالَ وابتسما‏
مَيْتُ العلى حيٌّ بمبدئهِ       وعدوُّه مَيْتٌ ولو سلما‏
مجد الشآم بميســـــلونَ بدا       غرساً سقوهُ دماءَهمْ فنما‏
يا ميسلون سُـــــقيتِ كلَّ ضحىً   دمعَ الغمامِ كما سُقيتِ دما‏
ثم يأخذ الزهو بـ “جورج صيدح” أن يقول في عرس الجلاء:‏
زغردي يا حرائرَ الشامِ           هذا مهرجانٌ لأختك الحرّيّة‏
خطبوها في ميسلون فأدّى       “يوسفُ” المهرَ بالدماء الزكيّة‏
بطولة ووقفة لا مست وجدان كل قلم حر وكل قلب نبضه الألم والأمل فشد من عزيمة الأقلام حتى على غير التراب السوري، يقول فيه أحمد شوقي:
سأذكر ما حييت جدار قبر    بظاهر جلّق ركب الرمالا
مقيم ما أقامــــــــــــــــــــت ميسلون   بذكر مصرع الأُسد الشبالا
ترى نور القصيـــدة في ثـــــــراه    وتنشق من جوانبه الخلالا
معركة مضى فيها يوسف بعد أن ألقى على شامته، شامة الدنيا تحية الوداع، ومضت روحه تنثر عطر دماه تحملها كل الانتصارات التي أتت بعدها تباعاَ، معركة اكتسبت أهميتها ليس من نتيجتها بل من المقولة التي حملتها؛ أن ليس النصر نهاية حتمية لكل معركة نخوضها، لكنها الكرامة هي ما تستحق أن نسعى لمحاولات نيله حتى وإن غلا الثمن، ويستحق أن ترسل رسالتك إلى الخصم: “نريد أن ندافع عن الوطن، ونريد أن نثبت للفرنسيين أننا لسنا من الذين تُجتاح حرماتهم بسهولة” والأهم أنه: “إذا دخلت فرنسا بسهولة؛ لن تخرج إلا بصعوبة من هذا الوطن”، هي كلماته حين اتخذ قرار المواجهة.
يعلم يوسف أن رسالته تقرأ كل يوم، ولعل روحه تطوف الآن في الأرجاء، يجرحها أن الذل سكن نفوس بعض من ائتمنهم مشاريع الانتصارات المنتظرة، لكن العزاء أنه على هذه الأرض؛ في كل يوم يولد ألف يوسف في قلوبهم إيمان كإيمانه؛ أن للروح موطناً أوسع من جسد، أن الدم الذي يجري في العروق أمانة؛ لا بد أن تُردّ يوماً ما، فكانت  له ميسلون الأوان والمكان لرد الأمانة.
بشرى الحكيم