عن حي الميدان و”الهيطلية” والألم
المرة الأولى من أية تجربة لا تنسى، سواء كانت مفرحة أم مؤلمة، الحب الأول لا ينسى، السباحة للمرة الأولى لا تنسى أيضاً، حين يكتشف المرء خفته وهو يعوم في الماء، يشعر للمرة الأولى بحرية نسيها ونسي طعمها الذي لم يجربه، الذهاب إلى السينما للمرة الأولى، يا لها من تجربة تخطف الأنفاس، وتبقى عالقة في البال كنواس يدق أبداً، الحزن أيضاً عندما وللمرة الأولى يسكن الدواخل والوعي، فيغير طبيعة الحياة نفسها، وترتسم ملامحه على الوجوه والأرواح، كذلك الأمر في تجربة الذهاب إلى طبيب الأسنان للمرة الأولى، بل إنها تحضر كذكرى وفي كامل تفاصيلها وكأنها جرت البارحة لا منذ أمد طويل من السنين، فالألم لا ينسى، خصوصاً ألم الأسنان اللئيم جداً، وصدمة الألفة.
لا نكبر على الألم
حدث هذا عام 1982، كنت في الخامسة من عمري، عندما أمضيت الليل كله في البكاء والصراخ من الألم، بعد أن استيقظت من النوم على وجع حاد في أسناني، لم تفلح بتسكينه كل محاولات أمي وجدتي لأمي التي نصحت “بالمضمضة” بالماء والملح، أيضاً شرب منقوع القرفة المغلي، وغيرها من القصص الروحانية التي قامت بها الجدة، وفي يدها سبحة طويلة لا تنتهي من تمرير حباتها “الكهرمانية” المدورة بين أصابعها الخشنة والحنون، أيضاً صلاتها بدورها لم تفلح في تخدير الألم الشديد ولو قليلاً، وهكذا تورم خدي، وصرت في حالة مزرية، صورّها الخال، وصارت صورتي متألماً مصدراً لسخرية العائلة لفترة طويلة، ومنهم من يذكرني بها حتى اللحظة وهو يضع يده على خدي يشدني قليلاً وهو يقول: “آه يا ملعون لساك رذيل متل الأول”!.
حينها كانت أحداث الثمانينيات الشهيرة، في الحرب التي خاضها المجتمع السوري أيضاً، مع إرهاب “الإخوان المسلمين”، ما أشبه الليلة بالبارحة، والدي كان حينها في الجيش، أما قدومه في هذا الوضع الأمني الخطير إلى البيت فكان شبه مستحيل، كنا نتخيله كشبح أحياناً، حيث إنه كان يأتي للحظات أحياناً، وفي فترة متأخرة من الليل، كان يدخل علينا ويقبلنا ونحن نائمون، يودع أمي وهو يخبرها أن تعتني بنا، وإن حصل له شيء، فإنها تعرف ماذا عليها أن تفعل، لذا فإن الخروج في ساعة متأخرة من البيت، حتى ولو الى الطبيب الموجود في الحارة الأخرى، كان صعباً وقاتلاً أحياناً مع موجة التفجيرات التي وقعت في المنطقة، كنا حينها نسكن في حي “الميدان” الدمشقي، حيث بيت جدي لأمي، وكانت الحكايات المرعبة عن الإجرام الذي جرى حينها لا تصدق من هول ترويعها، حيث تم تفخيخ العديد من الأطفال وإرسالهم الى المدارس لتفجيرهم بين الطلاب، أو توزيع ألعاب مفخخة على الأطفال، تنفجر بطريقة آلية، وغيرها من حكايات الرعب التي كنا نصحو وننام وهي ترافقنا.
في الصباح حسمت جدتي- رحمها الله- أمرها، وتوجهت بي الى عيادة الدكتور في الحارة المجاورة، لكنه لم يكن موجوداً في العيادة بسبب الاشتباكات التي دارت بالقرب من المكان، رغم أن بيته، أي الطبيب، كان قريباً من موقع العيادة، لكنه كطبيب كان في عداد المستهدفين من قتلة الحياة أنفسهم، ولو تغيرت الألقاب والصفات والعناوين.
عدنا إلى البيت وخدي منتفخ وعيناي محمرتان، وأنا أكاد أموت من الألم، بينما بقية الرفاق يسخرون من وجهي الذي تورم وصار كالبطة “المنتوفة” حسب وصف ابنة خالي، كنت كما أسلفت في الخامسة من العمر، وكان اختبار الألم المبرح بهذا الشكل، يحدث معي للمرة الأولى التي أعيها فيه، ولا زالت طعمته عالقة تحت أضراسي وأنا في الأربعين من العمر – إننا لا نكبر على الألم- إلا أن فترة النهار كانت تخفف من حدته قليلا،حيث اللعب مع الإخوة وأولاد الأخوال، الذين تركوا بيوتهم وجاؤوا للجوء في بيت العائلة من الخراب الذي زرعه السفلة بين الناس المطمئنين، و”عندما يأتي المساء” على قولة فناننا الكبير “عبد الوهاب” يبدأ الوجع بالظهور تدريجياً، ينمو ويتزايد حتى يصبح أكيداً كما لو أن كل الدنيا تجمعت في ضرس، عاد واثقاً وأكثر إصراراً على الفتك بي، حينها كان صراخي أشد خطراً مما قد يفعله أي إرهابي مختبئ بين تلك الحواري، حسب وصف خالتي الكبرى، وضعني الخال على كتفيه، وركض بي تحت الرصاص إلى بيت الطبيب، طرق الباب وقال له: “الولد رح يطق عقلو من الوجع”.
لن أنسى ما حييت تلك البرودة العجيبة التي كانت ترتسم على وجه الطبيب، وأنا على كرسي العلاج وضوء قوي موجه إلى وجهي يعميني، كانت يداه باردتين كوجهه، وعيناه وكأنهما جوهرتان معلقتان في مجرتين مطفأتين، يفصل بينهما بروز الأنف الذي يعكس الضوء، فينعكس خيال أنفه على الحائط، على شكل شخصية كرتونية شهيرة “شرشبيل” هكذا كان بالنسبة لي تماماً “شرشبيل” حينها، مع أن الرجل عمل جاهداً لمساعدتي، وما إن قلع الضرس المنخور، حتى صرت كمن انتقل من الجحيم وأجواء الجحيم إلى مصيف بلودان الشهير، الحياة فجأة عادت جميلة، ولها معنى يستحق الاستمرار لأجله.
هكذا كنت أفكر على حدث سني، حين راح باب العيادة يقرع بشكل هستيري، وعندما لم يُفتح، خلعت قدم أحدهم الباب، ودخل ثلاثة رجال، وجهوا البنادق صوبنا وأمرونا بشراسة بأن نصمت دون أي كلمة، ويبدو أن أحدهم كان مصاباً، حيث جلس على كرسي العلاج وبدأ يعاتب أحدهم، “لولاك ما كنت هون، الله لا يسامحك على هالبلوة”، أخرسه الرجل بإشارة من يده، تفيد بأن ثمة من اقترب من المكان، الطبيب الذي كان بارداً وحيادياً ورائحته معقمة كغرف المشافي، صارت ملامحه مخطوفة اللون، وعيناه جاحظتين، كان مرتعباً، أما مشهد الخال فكان غاضباً ويداه تقبضان على ركبتيه كما لو أنه يثبت نفسه كي لا ينهض، إلا أن الصاعقة كانت عندما قام المصاب بخلع اللثام عن وجهه، ليتبين لنا أنه “سمير” ابن الجيران الودود، الذي كان يبيع “الهيلطية”-وهي حلوى شعبية كان يبيعها لنا نحن أطفال الحي وأحياناً كان يوزعها مجاناً.
أذكر الحادثة التي انتهت بشكل فجائعي حينها، وأين في عيادة طبيب الأسنان التي اختبرت فيها شعورين كانا للمرة الأولى يتركان أثرهما الخالد في ذاكرتي وطبيعتي، الراحة التي لا توصف، بعد أن تم خلع ضرسي المصاب وذهاب الألم، والصدمة التي لا شيء يبررها، من كون “سمير” المصاب جراء تورطه في المشاكل الحاصلة حينها، كان هو من باعني قطعة الحلوى، التي تسببت حينها بالألم للمرة الأولى التي أعيها في حياتي، وكان حاله كما العادة حينها، يضحك ويمزح ويشارك في لعبة كرة قدم وهو يقدمها لي، وها هو أمامي الآن في عيادة طبيب الأسنان، في يده سلاح عوض “صينية الهيلطية” يتألم ويئن، بعد أن سبب الألم لكثير من الناس، بينهم أهله، جيراننا الطيبون!. فهل تنسى زيارة طبيب أسنان كهذه ولو في القبر؟ لا أظن ذلك.
تمّام علي بركات