ثقافة

عن “ميمة” السيد “حدو” والإذاعة والعلاج بالموسيقى

لم اصدق الدموع التي بدأت تنحدر ببطء من عينيه دون أن يبذل أي جهد ليخفيها، بل كان شاردا أكثر في الطريق الذي يقود عليه الحافلة، وكأنه تذكر شيئا ما، لكن ذاكرته تخونه، فها حاجباه يقطبان بحدة، بينما وجنتاه بدأتا بإظهار عظام وجهه تحت قشرة جسده الرقيقة، إنه السيد “محي الدين كردي”، 58 عاما، الصالحاني الطيب، يقود حافلته مخترقا شوارع العاصمة التي يحب، ويحكي بمزيد من الحزن واللوعة، أنه حزين على “ميمته” والدته، أما سبب حزنه عليها، فهو حزنها لأن إذاعة “صوت الشعب” تم إغلاقها ولم يعد صوتها يصدح في فسحة بيتها السماوية، حيث تقضي جل وقتها، فهذه السيدة البالغة من العمر ثمانون حولا، هي ومنذ أكثر من 20 عاما تتابع، وبشكل يومي، إذاعة “صوت الشعب” حتى أنها تحفظ عن ظهر قلب أوقات برامجها ومسلسلاتها الإذاعية التي اعتادت السيدة الدمشقية الاستماع إليها بعد أن خفّ بصرها.

السيد المحترم “محي الدين” والذي يعمل موظفا في واحدة من المؤسسات الرسمية، بقي أعزبا لأجل خاطر أمه، وهو يقيم معها في بيت العائلة في حي الصالحية، ليس لهما إلا بعضهما البعض كما يقال وهو خائف عليها وعلى صحتها: “والله مبارح رجعت إلى البيت يا أستاذ كانت شاردة وسألتني إن كانوا أصلحوا البث، لأني لم أجرؤ أن أخبرها أنهم أغلقوها، عندما طلبت إلي أن أبحث لها عنها على الراديو، بعد أن فقدت موجتها، والله حسيت روحي رح تطلع من الزعل عليها” أمنني السيد محي الدين أن أكون صوته ووعدته بهذا بعد أن علم أنني أعمل في الجريدة السورية التي يفضل، حتى أنه قام بذكر أسماء العديد من الزملاء والأساتذة الذين كانوا يخاطبون وجدانه في مقالاتهم في هذا المنبر.

طبعا كان من الصعب أن أشرح أنا بدوري للسيد “حدو” وجهة نظري في الموضوع، خصوصا وأنني من الذين يجدون أننا بحاجة شديدة إلى تطوير الخطاب الإعلامي، والعمل على تركيز الجهد في الفترة الصعبة على ما يمكن له أن ينقل الصورة المحلية بحقيقتها للعالم، خصوصا وأننا نواجه أجندة إعلامية مضادة، تخوض فيها أهم الماكينات الإعلامية في العالم، ويبذخ عليها بأموال بشكل خاص من جيب الشعب العربي، الخليجي تحديدا، للأسف الشديد طبعا، خصوصا وأنه كان يبكي أمامي، وكان من المستحيل إلا أن احترم وجهة نظره وأن انقلها بكل حيادية، بعيداً عن أي شعور شخصي. لكن وبينما أنا جالس إلى حاسوبي استعد لكتابة هذا المقال، لإيصال صوت واحد من السوريين  ورأيه في هذا الشأن الذي يعنيه أيضا، فلهذه الإذاعة علاقة وجدانية بجيل بأكمله، في هذا الوقت كانت واحدة من قنواتنا المحلية تعرض لفقرة صباحية، تتحدث عن العلاج بالموسيقى، وكان الطبيب المكلف بالحديث عن الموضوع، هو موسيقي سوري مميز فعلا، فنان وعازف عود مبدع، ومدير لواحد من صروحنا الثقافية، كما أنه مدرس في العديد من المدارس الموسيقية، وأيضا هو طبيب معالج بالموسيقا، حيث فاجأنا فعلا بحديثه عن حالات عالجها بجرعات موسيقية، منها عندما قام بمعالجة امرأة حامل مكتئبة لا تنام فأعطاها جرعة موسيقية صغيرة وغفت لمدة 14 ساعة!، كما أنه يقدم خدماته الطبية الموسيقية النبيلة، في أحد المراكز الطبية في يوم مخصص من كل أسبوع، حيث طلب عبر اللقاء إلى المشاهدين، أن يطلعوا على هذه التجربة الجديدة لدينا في سورية في زمن الحرب، كما تحدث بما يشبه السحر العلمي، عن دروس موسيقية خاصة بالأجنة، حيث يتم تعليم الجنين وهو في رحم أمه، العديد من المهارات عن طريق الموسيقا، وأنواع المعالجة تتم إما في الاستماع المباشر أو عن طريق السماعة التي تضعها السيدة الحامل على أذنيها، فيسمع جنينها ما تسمع، أو عن طريق العزف المباشر، أو تعليم الموسيقا للسيدة الحامل، وهذا مبحث آخر وعدنا الضيف المميز، أنه محور إعلانه القادم عن مشروعه الطبي الموسيقي، على ذات القناة، للحديث عن هذه الفقرة الغاية في الأهمية، وفي الوقت الذي فازت فيه الزميلتان المقدمتان للفقرة، بتجربة علاج مجانية على الهواء مباشرة، بعد التجربة العلاجية الموسيقية التي قام بها الفنان والطبيب والمعلم، فاتنا نحن المشاهدون سيئوا الحظ، أن نفوز بجلسة علاج موسيقي مجانية أسوة بالزميلتين اللتين استفاقتا من الاسترخاء بكل سعادة، أما سبب أنه فاتنا كمشاهدين، أن نسترخي فهو أننا كنا مذهولين مما يجري على واحدة من شاشاتنا الرسمية، خصوصا وان السيد العازف الفنان، طلب إلينا أن نتخيل أنفسنا على قمة جبل، ثم نضيف إلى المشهد “شوية” بحيرات وغيوم وبجع، ونحن نستمع إلى مقطوعته العلاجية القادمة!، وبينما كنا نتخيل تمهيدا لنستمع، وقعت قذيفة في الجوار، ومرت في البال صور حديثة للبؤس الذي عانى منه أطفال “كفريا والفوعة” وما حل بهم، ففاتنا العلاج الموسيقي.

تساءلت في حيرة، عن أي الموضوعين أتحدث كصحفي، عن تلك الإذاعة المغلقة بقسوة، ومعاناة السيد محي الدين معها، أم عن هذه الفقرة الصباحية الرائعة والمدهشة، المبهرة والبديعة، خصوصا بعد ارتكاسة الاسترخاء التي أصابتني عندما نهضت عن الكتابة وفقرات ظهري تكاد تتمزق، وقال لي الطبيب أن الأربعين هو سن الديسك عند الرجال، فسألته إن كان ينصحني بالعلاج الموسيقي، فصمت وفرح وكاد أن يبكي من فرط سعادته الغامرة.

تمّام علي بركات