الأدب الشعبي العربي.. الغائب المُغيب
لم يعد موضوع “الأدب الشعبي العربي” من الموضوعات التي تطرح في الشأن الثقافي العام للمنطقة العربية، إلّا بحالته الفلكلورية رغم أن هذا الأدب الذي يصنف كجزء من التراث، يشكل بما يضمه بين صفحاته من عبر وأمثال وحكايات، ذاكرة وضمير شعب ما، بل وإلى حد ما تاريخه المعبّر عن طموحاته وقضاياه وتحدياته، ومن المعروف أن معظم شعوب العالم المعاصر، استفادت من تراثها الشعبي في تطوير وإثراء آدابها فيه- كما فعل أدباء أمريكا اللاتينية مثلاً- فجمعته ودرسته ونشرته، ثم تمت ترجمته إلى العديد من اللغات ليكون من المصادر الرئيسية لأعمال أدبية عديدة “مسرحية ونثرية وشعرية”، حيث تم الاتكاء على حكايات هذا الأدب الشعبي، لتكون نواة لحكايات جديدة، تمضي بدورها لتكون من ركائز أدب عالمي يتشكل كل فترة زمنية معينة، ويصبح هو لسان حال الحياة ذاتها.
لكن ومن شديد الأسف أننا في العالم العربي لم نلتفت إلّا مؤخراً، بشكل جاد لهذا الأدب ولهذا التراث، الذي حكم المنطق الأخلاقي والاجتماعي للدولة العربية التي كانت يوماً ما من أقوى الدول في المعمورة! ومن المعروف أن شعباً ما، وجد أنه وصل إلى حال صعبة في وجوده نفسه، فإن أول ما يبحث عنه هو: ما هي العوامل التي كانت سائدة عندما كان قوياً عسكرياً وعلمياً وثقافياً وحتى دينياً؟ فعندما تكون قوياً في أدبك، أنت لا ريب قوي في محيطك، حيث سيتوجب على أدبك أن يفرض نفسه كثقافة واجبة للآخرين، كحال اللغة الانكليزية، التي تهيمن على العالم بأسره.
ولكن ماذا نقصد بتعبير “الأدب الشعبي العربي” الذي يبدو كما قلت أنه اختفى من التداول في الثقافة المختلطة الحاضرة اليوم؟ في الحقيقة عديدة هي المصطلحات التي تناولت الأدب الشعبي ومنها:
هو تعبير المجتمع الشعبي عن نفسه من خلال الكلمة/ أو: هو كلام منطوق من عامة الشعب للتعبير عن نفسه، أو: هو تعبير جماعي عن تجربة إنسانية من منظور جمعي/ وعموماً يمكن القول: إنه المأثور القولي المتوارث الذي عبّر عن الضمير الجمعي للأمة العربية، دون أن يرتبط باسم مؤلف معين أو معروف، والذي تعرض عبر مساره الزمني إلى الإضافات والتعديلات التي فرضتها طبيعة توظيفه في التعبير عن المراحل المتعددة التي أصرت على تبينه، وتضمينه قضاياها ومشكلاتها وتحميله التعبير المستمر عنها في مرحلتها الآنية إلى جوار ما يحمله من نبض المراحل السابقة عليها، وهو أيضاً يمثل تاريخاً من التغير الدائم لأنه يقوم على الرواية الشفهية، حيث تمثل درجة براعة الرواية والمؤثرات المادية دوراً مهماً في تطور هذا التقليد الشفوي، إضافة إلى تأثير الرواية والمتلقي والظروف الاجتماعية في الأدب الشعبي، فهناك تفاعل مستمر بين الأدبين الشفوي والمدون، حيث يستعير مؤلفو الأدب المدون الكثير من الحكايات والموضوعات والتقنيات من الأدب الشعبي لتوظيفها في نصوصهم، قبل أن ينكروا أصلها نفسه!.
وعلى هذا فإن أي نص أدبي يصلح أن يكون نصاً شعبياً أدبياً إذا ما انتخبه الناس وتبنوه وصار على ألسنتهم، ليقوم بعدها كُتابهم والفنانون منهم، بتحميله نبض المرحلة، والتي تليها، وهكذا من مرحلة إلى مرحلة ومن عصر إلى عصر، يختفي تدريجياً اسم المبدع الأصلي له، حيث كان النص الأصلي هو الأساس الذي بنيت عليه كل التراكمات الشعبية، بناء متجدداً بصفة دائمة، ولهذا وصلنا العديد من الحكايات الشعبية الكبيرة بما حملته من أحداث وشخصيات، تطورت عبر الزمن، فتطور صراعها وحبكتها وأسلوبها، وحتى صفات أبطالها، كما رأينا مثلاً في قصة “الزير سالم”، وكيف رواها للجمهور في الألفية الثانية الراحل “ممدوح عدوان”، فحمّل شخصيات الحكاية من الصفات النفسية والجسدية ما لم يكن موجوداً فيها سابقاً، وقام بتخليصها من المبالغات الحكائية التي يحبذها “الحكواتي” والذي كان له أيضاً دور مهم في تطوير بعض جوانب القصة حسب رغبات الجمهور المتحلق يستمع بلهفة لهذه السيرة أو تلك، كما أن العديد من الأعمال الأدبية الشعبية الكبيرة التي وصلتنا، بنيت على قصص أو أخبار حقيقية، حكت عن حياة بعض الأبطال، كما هو الحال في سيرة “عنترة بن شداد” التي نسب أصلها الأول إلى “الأصمعي”، أيضاً وصلتنا أعمال كبيرة تقوم أصولها على حكايات أقل اختصاراً، جمعت إليها حكايات أخرى أيضاً، كما هو الحال في قصة “الصحصاح” في ألف ليلة وليلة، والتي هي جزء من سيرة ” ذات الهمة” الضخمة، والتي تكاملت فيما بعد بحيث كونت قصة “الصحصاح” وقصة “جندبه الكلابي”، وأخبار المعارك على الثغور بين العرب والروم، وأخبار الاضطرابات والثورات التي واجهت نهاية العصر العباسي، وفي “ألف ليلة وليلة” نجد حكايات “علي الزيبق ودليلة المحتالة وأحمد الدنف” في الجزء القاهري أو البغدادي من الليالي، ولكنها تدخل في إطار السيرة الشعبية المتكاملة التي ظهرت باسم “سيرة علي الزيبق” وفي الوقت نفسه نجد في الجزء الثالث من الليالي الألف امتداداً شعبياً لـ “كليلة ودمنة” لابن المقفع، حيث يستخدم قاص الليالي حكايات الحيوان وبنفس الأسلوب الذي وردت فيه في كتاب ابن المقفع الشهير، وإن بدأت تخرج إلى مجالات أخرى تلعب فيها رموز الحيوانات أدواراً أخرى.
تراجع إذاً دور الأدب الشعبي تراجعاً كبيراً في ظل وجود وسائل الإعلام السمعية والمرئية فضلاً عن الكتاب سابقاً، وثورة تكنولوجيا الاتصالات حالياً، على الأدب الشعبي سلباً وإيجاباً، ذلك لأن ما سبق ذكره، شغل الناس عن الأمور الاجتماعية والمنتديات التي تجمع الناس، وتتم المناقشات الفكرية فيها، وأصبحت الفردية من سمات المرحلة، ولربما لو تم الاشتغال على الأدب الشعبي بقصصه وحكاياته وأفكاره ومضامينه التي حملها، لكان حقيقة من أخصب ما قد ينهل منه الروائي العربي، كما فعل العديد من الروائيين الذين استفادوا مثلاً من ألف ليلة وليلة كما لم يفعل كاتب عربي!، وفي الوقت الذي تذهب فيه الشعوب للبحث عن أصولها، بل وصناعة أصول ولو بالحكايات المخترعة كما فعل “الأمريكيون” مثلاً، نجد أننا في المنطقة العربية عموماً، نبتعد وبشكل مخيف عن كل ما يربط هذه المنطقة بجذورها الجامعة، حيث تدور قصة واحدة مثلاً في ثلاث أو أربع مدن عربية، بين دمشق والقاهرة وبغداد وعدن، وهذا حقق وحدة عربية أدبية من خلال أشخاص تدور حكاياتهم في هذه البلدان، فيعرف ابن اليمن ما جرى في الشام، وابن مصر ما جرى في بغداد، وهكذا.
طبعاً لم ندخل في التصنيفات والأنواع الموجودة لهذا الأدب، وهي كثيرة ومتنوعة ومذهلة حقيقة، وقادرة في كل وقت على كسب ثقة القارئ، والمساهمة بفاعلية في تعريفه بنفسه أولاً ومن ثم بالآخرين وبتجاربهم وبتقاطعات هذه التجارب مع تجارب الآخرين وما نتج عنها، وهو موضوع يستحق أن تفرد له العديد من المقالات والمباحث التي يمكن لها أن تعيدنا وفق صياغة حديثة ومناسبة لها، على الأقل إلى اللحظة التي توقفنا عندها كأمة عربية عن الاستمرار بكوننا من صناع تاريخ البشرية، ولسنا من المقتاتين على ما يصنعه الآخرون ونستهلكه أكثر منهم حتى!.
تمّام علي بركات