ثقافة

“سيمفونية قلب” في افتتاح المؤتمر النوعي لأمراض وجراحة القلب

فجأة يدق قلبك بسرعة، تتحول شرايينك إلى شد عصبي مؤلم غير محتمل، وبلحظة مباغتة تشعر أن صدرك يطعن بألف ألف سكين، وتبدأ  حياتك بالتبدل من حالة طبيعية إلى تعرق فاتر، ساخن، بارد.. رهبة، خوف من السقوط بغيبوبة.. النهاية.. قدر الموت، وعلى الفور تنقلب نظرتك المادية للحياة، وأنت في الطريق إلى الطبيب المختص، ثم قسم الإسعاف في مشفى جراحة القلب، وتتبدد رؤاك بسرعة إلى خيال أشبه بشبح الوداع.. شبح لا يخلو من حالة رومانسية مقلقة، تتجلى بتعلق روحك بمن تحب.. بالحياة.

وقتها تستطيع القول بأنك في حالة رحيل، لا تعرف كيف بدأ، وما سر اختيار هذا النوع من الرحيل لروحك، والذي تتمنى إخماد ناره في صدرك، وأنت تتألم، وتتألم بشدة أكثر، وتتوسل الأطباء لإيقاف حدة الاحتشاء بأية طريقة، فقط انتزاع الألم من صدرك. فجأة تختلج على سرير الإسعاف، تحملق عيناك في الفراغ، يخرج لسانك من فمك، تعض عليه، تتبول في ملابسك وأنت تستسلم للحظة توقف قلبك.

تلك كانت حالتي مع قلبي، وفي سكون متواتر عميق، سلمت روحي، غفوت بين ذراعي البحر، وكأن رحلة من فيض الأحلام تسري في كياني..

تطفئ الدنيا أنوارها وتغفو في عناق خال من البهجة، وأغرق مبحراً مع أسئلتي، من أين جاء الموت؟! كيف استطاع اقتحام سريرتي؟!.. إلى أي نهاية أمضي؟!.. أسئلة كثيرة تزاحمت في ذاكرتي المثارة بتواتر أنفاسي!.

وكالخارج من أضغاث أحلام، أستيقظ من حلم هادئ، غامض، ولغط مرتفع يتردد في مسامعي (حظه من السما.. استجاب قلبه.. نياله عاش.. انكتبلو عمر جديد.. الحمد الله عالسلامة….) .. تلك عبارات أولى تنفستها وأنا لا أزال على سرير إسعاف مشفى الباسل لجراحة القلب باللاذقية.

لقد فعلوها باستخدامهم ما يسمى بـ (ضربة الحياة)، نعم أنقذوني بصدمات كهربائية استجاب لها القلب، فكانت العناية الإلهية المطلقة في إنقاذ حياتي، وكان يوم ميلادي الجديد الأحد 19/ 2 / 2017.

القلب العتيق

“أشكر قلبك لأنه أعادك لنا”.. عبارة استوفتني طويلاً من بين مئات، بل بضع آلاف العبارات التي كتبت لي على صفحة الفيسبوك، وأنا لا أزال في العناية المشددة، وكدقة قلبه كان قد دونها لي الصديق العتيق الكاتب والصحفي الكبير حسن م يوسف، فأنعش روحي، بل جعل دقات قلبي تثلج في صدري، وهي تعزف له لحن الحب والامتنان، أي بعد توقف قلبي نهائياً، وعودته للخفقان بصدمات الحياة الكهربائية.

ولأن القلب العتيق المسكون بالإنسانية والحب الأستاذ حسن، النقي كالزهور البرية التي يعشقها، فهو دون شك أشبه بمركز نبض الحياة في أفئدتنا، وكنظام الدورة الدموية في عقولنا وأجسادنا.. ولا أغالي إذ قلت عنه أشبه بضخ الدم المحمل بالأوكسجين، مركز خلجات الحكايات من البداية إلى النهاية، إذ مرة ينتزع منا مرايا النفس، فيروي أقاصيص تفضح شجوننا، ومرة يهمس أبجديات الحب، فتكتمل صورتنا في الآخر.. ومرات ينبش أشواقنا، يؤجج توقنا، يتراقص مع ابتسامات أرواحنا، وهو أيضاً مركز عكاز أثقال أحزاننا وأوجاعنا في قسوة هموم الزمن.. زمن الحرب.. الحب.. الحلم.. شكراً لدقات قلبك أيها الربان لأنها في حياتنا، وأنت من سطر في أرواحنا أن يكون لنا إبحار كخافق روحك.. أن يكون لنا مبدأ يشبه حالتك، وأنت تحمل صليبك على كتفك، تسير بجروحك إلى خلاصك، هذا يعني الحياة، والحياة بلا مبادئ، تعني الموت بلا قيامة.. أما أن نرقص لأجل الرقص.. لأجل مجهول.. هذا يعني أننا نرقص لأجل باطل.. وباطل كل جسدي أو عقلي نهايته توقف نبض القلب (موت بلا معنى)، والرقص في المعنى الآخر هو القلب الذي أهديك خلاصاته (الحب والحياة).. ومن منّا يعيش من دون قلب.. من دون الرقص أو الحياة والحب.. وهل هناك قضية إبحار تنشدها الروح دفئاً واتقاداً.. سفراً وملكوتاً أكبر من قضية قلب (الحب)؟.. ربما كان غير ذلك في أعراف البعض من المقعدين على الشواطئ!.. لكنها قضيتي.. التحدي القابع في صدر قيثارة نبضي.. الرقص الدائم فوق أجنحة رياح عواصفي.. إنها قضيتي منذ أن أبصرت أشرعة البحر والنور.. إلى لحظة سكوني.. إلى مهدي.. والتي دفعت بدفة مركبي لكتابة حلقات مسلسل (أبناء الريح) القادم قريباً مع خفقات قلبي في اغتراب الحياة والحب والبحر، وفي ثلاثين حلقة عبر أثير إذاعة دمشق وعلى قنوات التلفزة.. تحكي كيف أن الشمس– الحقيقة– لا تزال تختبئ هناك خلف البحر، فكلما عصفت ريح.. وبكت سماء.. وصرخت أمواج.. واشتدت أنواء الحياة، حجبت خلف ظلالها حقيقة ما يحدث في أزمنة الغربة والحياة، والتي دفعتني إلى محاكاة شخصيات تعيش بيننا، ساكنة ضمائرنا حباً واغتراباً إلى هذه الساعة.

كما يحكي المسلسل كيف أن سورية القلب النابض بالحب لوطن الحب (روحاً وعقلاً وجسداً وأبجدية) حملت رسائل إبحار علوم إنسانية لا نهائية للعالم كله، وهذا يعني أنها لخفقات الحياة وأنوائها مدهشة دائماً بصمودها، منيعة بكبريائها وتفوق أبنائها، هي امتداد للصراع الدرامي اللامتناهي بين شراسة الأمواج والشطآن.. طقوس تستعيد شموس مراسيم القلوب، تعثر الخطـوات فـي أقدارهـا، احتـجـاج آخر على هجرة الأدمغة.. تداعيات اغتراب قفزت إلى مراسيها.. بوح قلب توقف ثم عاد للحياة، فأفضى بعشقه للأمل والبحر.

وزير الصحة وقصة طبيب سوري

منذ ما يقارب الشهرين، أي منذ توقف قلبي نهائياً، ثم عودته للحياة، وأنا في مخاض كتابة السيناريو، ثم تصوير وقائع فيلم (دقة قلب) والذي أحكي فيه خفقة الحياة.. وشريان ينقب عن أسرار تفوق القلب السوري.

وقد أصبحت أمراض وجراحة القلب بشتى أنواعها أمراً طبياً نوعياً في غاية الأهمية لدى الإنسان السوري، بل وتعد أهم مساهمة علمية تقنية متمثلة بآلة القلب والرئة، وتكمن طريقة عملها في تحويل الدورة الدموية إلى مسارها الصحيح في القلب من فيض قلبي المسكون بالعشق لوطن الحب سورية، وقد كتبت عنه وله مئات، بل آلاف الساعات الدرامية، ومنها آخر الأعمال سيناريو مسلسل (أبناء الريح) والذي أحكي فيه بعض هواجسي في اغتراب الحياة والحب والبحر، وقصص التفوق الطبي السوري في الخارج، بدعوة لعودة الأطباء وأبناء الوطن المغتربين إلى حضن الأرض التي أنبتت تفوقهم، وعندما بدأت كتابة المسلسل لم أتوقع أنني سأكون، وبهذه السرعة في حضرة قصص القلب النبيل خلال 27- 28 / نيسان/ 2017 في اللاذقية (وهو أمر اعتبره في غاية الأهمية لصالح حياتي الصحية الراهنة واستمرار مشروعي الدرامي، ولأسباب عدة، أولها أنني حلقت بحضور الأطباء السوريين، وهم يتربعون في أربع جلسات متتالية في علياء التفوق العلمي، وثانياً شرف استثنائي لي أن أكون مشاركاً بفيلم (سيمفونية قلب) والذي لم أتمكن من إخفاء غبطتي بعد عرضه في افتتاح المؤتمر الأنيق والراقي، وتحقيقه ذلك الصدى لدى الأطباء الأخصائيين والمهتمين والإعلاميين، بل لم أتوقع دفق تلك العبارات العميقة في معانيها ونبرتها الحارة المؤثرة، وكأن الزمان والمكان قد تحولا إلى احتفاء أترقبه عادة في مشاركاتي بالمهرجانات الكبرى، وهذا ما يجعلني أنحني أمام هيبة قامات العلم، والذي أكد عليها وبأهمية السيد وزير الصحة الدكتور نزار وهبة يازجي في حديثه بعد انتهاء الجلسة الثالثة، مشيراً إلى حرصه على متابعة الموضوعات وحوارات ومناقشات الأطباء بدراية وخبرة ودربة وعفوية وحتى طرافة، الأمر الذي قاده لدعوة المؤتمر للحوار على طاولة مستديرة، ثم راح يقص حكاية أستاذه الطبيب الراحل والذي أصيب بأذية قلبية، وأجري له عمل جراحي في أمريكا، وبعد فترة عادت الأذية القلبية والتي لم يجد من يعالجه منها، فراسل- أي أستاذه الراحل- جهات عديدة في مختلف أصقاع الدنيا إلى أن توصل لعنوان للعلاج في جزيرة بعيدة في أمريكا، وسافر إلى هناك، والمفاجأة أن الطبيب الذي قصده في تلك الجزيرة والذي أجرى له العمل الجراحي، وتابع معالجته كان سورياً.

لاشك أن تلك القصة الآسرة.. تتقاطع مع تفاصيل مسلسلي (أبناء الريح) والذي سأضيف له تجربتي الشخصية مع أمراض وجراحة القلب، ورؤى السيد وزير الصحة الدكتور نزار، وقصة الطبيب الراحل أستاذه، علها تكتمل ملحمة من حياة اغتراب وحروف وأقاصيص، مضت أشرعتها في هشيم سراب.. تصارع رياح السنين وأعاصير البشر والذات، وهي بالمحصلة حروف من حوار الحضارات بين الشرق والغرب، وحوار إنسان رسول للعشق والسلام في زمن الغربة والحرب.

وبانتهاء أعمال الجلسات الأربع، لا بد من الإشارة إلى أهمية مؤتمر الهيئة العامة لمشفى الباسل لأمراض وجراحة القلب ومديرية الصحة في اللاذقية، بالتعاون مع الرابطة السورية لأمراض وجراحة القلب والذي أنجز بتفوق يضاف للتفوق العلمي والطبي السوري، الحضور النوعي والرقي والاهتمام وكل العناية من المنظمين والقائمين على الأعمال وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور الجراح أيهم عنان شعبو المدير العام لهيئة مشفى الباسل باللاذقية، صاحب الحضور المختلف بابتسامته وتواضعه غير المسبوق، ما أضفى على المؤتمر طابعاً أسروياً مبدعاً، والأستاذ الدكتور غياث بدور المدير الطبي والذي بدا في كل لحظة مسكوناً بكرم العطاء غير المحدود، كصفته الأشهر في عالم الطب والعلاقات الإنسانية، وقد بذل قصارى الجهد ليكون المؤتمر ورشة عمل تتسم بالحب والموضوعية الجادة في الإنجاز الاستثنائي من لحظة التحضير والاستعداد وانطلاقته، إلى ختامه بتعاون خلاق مع كافة الكادر الطبي والإداري والفني والتمريضي في المشفى، والذين يستحقون جميعاً الثناء والتقدير لتميزهم وتفانيهم في خدمة نجاح المؤتمر.

بطاقة حب وتقدير لمختلف الفعاليات المشاركة في المؤتمر، وكافة الأطباء وإدارات المشافي السورية، ورؤساء الجلسات، والأطباء والباحثين المشاركين في المواضيع والمناقشات ممن أغنوا الحوارات بما هو جديد في عالم أمراض وجراحة القلب، وكل عام والتفوق السوري والوطن القلب سورية بخير.

إلياس الحاج