ثقافة

مدوّنة ألف ليلة وليلة أدهشت الغرب واختزلت روح الشرق

وتبقى مفردة “مولاي” خالدة في تراثنا الأدبي والفني وفي الذاكرة الجمعية، شاهدة على سحر المرأة وقدرتها على التغيير والتأثير، وبقيت مقولة شهرزاد التي لامست شغاف قلب شهريار خالدة على مرّ الأزمنة”وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح”، هذه العبارة التي ختم بها د. عاطف البطرس ندوة ملتقى السرديات حول مدوّنة ألف ليلة وليلة في –أبو رمانة- بعدما أجمع الحاضرون على أنه أجمل ملتقى حتى الآن لتناوله سحر الحكاية وتشعب السرديات في أشهر كتب التراث.

حفل الملتقى بكثير من المداخلات، وأثار الحاضرون قضايا مازالت شائكة تطال جوانب من إيجابيات وسلبيات ألف ليلة وليلة، أهمها التباين بالرأي هل يجوز المساس بالتراث وتهذيبه وحذف ما يخدش الحياء العام كبعض الطبعات لألف ليلة وليلة، أم يبقى التراث بكل حذافيره كما هو لأنه وثيقة أدبية وتاريخية.

استهل الإعلامي جمال الجيش الحديث عن هذه المدونة بأنها عبّرت عن هذا المشترك الفني والعميق المستمد من روح الشرق، الذي دلّ في العصور الأخيرة على قدرته على أن يكون حضارياً وشكّل جزءاً من الحضارة المعاصرة، وعلى أنه قادر على الابتكار الذي هو أحد المتخيلات لفتنة الحكاية.

رمز التضحية

في مشاركته التي حملت عنوان: “المشترك الإنساني وقصة الحكاية” وصف د. عاطف البطرس هذه المدوّنة بأنها إحدى أهم السرديات العربية التي ساعدت على نشوء الرواية العربية، هذا الفن الذي أصبح ديوان العرب بفضل تلاقح الشكل الغربي للرواية مع المحتوى الشرقي، ثم بيّن أهمية هذا العمل من نواح عدة، أولها البنية- الحكاية التي اتصفت بها الليالي وقدرتها على شد المتلقي بما تحققه له من متعة وفائدة، وتأثير العمل في الأدب العالمي، ولأنها –كما ذكر- تعد أنموذجاً فريداً للتعبير عن التواصل الثقافي بين الشعوب، وأثبتت أن العرب قادرون على تقديم إنجازات أدبية وفنية جديرة بالمساهمة الفعالة في تشكيل أدب عالمي ذي محتوى إنساني، فقد أصبحت شهرزاد رمزاً للتضحية من أجل خلاص بنات جنسها، وفي الوقت ذاته في الليالي ما ينفي أن العرب شعوب بدائية متوحشة بعيدة عن الحضارة، فالليالي خير دليل على المدنية وعلى دور التجارة في التقدم الإنساني كشخصية السندباد.

الفكرة الهامة التي توقف عندها د. البطرس هي أن الليالي سبقت أمريكا اللاتينية في اكتشاف الواقعية السحرية وفي تقديم الغرائبي والعجائبي من بساط الريح إلى علاء الدين والفانوس السحري إلى مغامرات السندباد، وما تمتاز به أيضا هو ما وصفه الباحث بالتعددية ليس بالأمكنة والأزمنة، وإنما في مستويات السرد وفي الشخصيات وتقاليد الشعوب وتعانق الواقعي مع المتخيل.

خيال ومغامرة

وعرّف د. ثائر زين الدين من خلال مشاركته بعنوان” ألف ليلة وليلة وتأثيرها في الأدب الأوروبي” الكتاب بأنه من أهم الكتب التاريخية إلا أن أجدادنا طبعوه وحفظوه من الضياع لكن المستشرقين هم الذين اكتشفوه، وأن أهم طبعة هي طبعة بولاق المنجزة في مصر وتحدث عن ترجمات الكتاب إلى لغات شرقية كثيرة فهناك تراجم تركية وتراجم فارسية وأوردية، وبقيت ترجمة جالان تمثل مفهوم الشرق للأوروبيين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى أن جاءت ترجمة المستشرق الإنكليزي لين، وأوضح د. زين الدين بأن ترجمة الليالي غيّرت من نظرة الغرب إلى الشرق وأثرت في أدب الغرب وفنونه، بسبب ما فيها من خيال رائع وجسارة ومغامرة جاءت بدلاً لتلك الينابيع الكلاسيكية التقليدية التي ملّها الغرب.

وتوقف زين الدين عند دور المستشرق سيمسون دي ساسي ومما قاله”يجب أن نعدّ العرب معلمين لنا في ابتكار الأحداث الشائقة، وفي العناية والاهتمام بالتنويع المستمر من خلال عالم الأساطير المتألق للسحرة والعجائب” وحينما نشر جالان مجلده الأول عام 1704 أثار نوعاً من الفضيحة لكنه في الوقت ذاته سحر فرنسا العقلانية في عهد لويس الرابع عشر، ويرى د. زين الدين أن الرومانتيكية بدأت في تلك اللحظة عندما قرأ شخص ما في باريس ألف ليلة وليلة، لينتقل الباحث إلى بورخيس الذي تأثر منذ طفولته بهذا الكتاب وتوقف عند تحليل بورخيس للعنوان فكلمة ألف مرادفة لمعنى لامتناه، فنقول ألف ليلة يعني أن نقول: ليال لامتناهية، وأن نقول ليلة وليلة يعني أن نضيف ليلة واحدة على المالانهاية، وأضاف بأن من يقرأ الكتاب حتى النهاية سيشعر بالدوار ليس بسبب الملل لكن لإحساسه بأنه أمام فضاء شاسع لامتناه. كل قصة فيه تمضي نحو الأخرى، ليستعرض رأي ماركيز الذي شغف بدور الراوي، وليناقش البنية العجيبة المحكمة وهل هو إنجاز شعب أو شعوب ضمن ما يمكن تسميته بالأدب الشعبي أو الفلكلور. ليتوقف عند قول المستشرق ماكدونالد وتنقل عنه د. سهير القلماوي بأن ألف ليلة وليلة دل على أشياء مختلفة في عصور مختلفة، وأن أطواراً ثلاثة لابد أن تكون قد مرت على مادة الليالي، وهي الفلكلور الصرف، ومن ثم تهيئتها على أيدي الكتاب لتصبح قصصاً مكتوبة أو مسموعة، ووجودها على الصورة المحددة في مجاميع من ألف ليلة وليلة. ليخلص إلى قول بورخيس بأنه كتاب غامض وإن الحكايات عمل آلاف المؤلفين.

عالم سحري

وتحدث الأديب ناظم مهنا عن غواية المستحيل في هذه المدونة، وأن هذا الكتاب عابر للقوميات بترجماته المتعددة وبالمكانة التي حظي بها في اللغات الأوروبية، مما يجعل العرب شركاء كونيين في تأسيس السرد متعدد الجنسيات وله مكانته في خارطة السرد المعولم، رغم المبالغات التي بلغت حد التزييف أحياناً وإطلاق صفات نمطية من خلال الحكايات غير الواقعية على إنسان الشرق وعالمه على أنه عالم سحري استهوى الشعراء الرومانتيكيين، فترجمت الليالي إلى الفرنسية وكانت أول ترجمة أوروبية قام بها المستشرق الفرنسي”انطوان غالان” في 12 مجلداً، وأضاف بعض الحكايات إليها، ليخلص إلى أن الأوروبيين عرفوا الليالي قبل ترجمة غالان في منتصف القرن الرابع ثم تتالت ترجمات الكتاب إلى معظم اللغات الأوروبية، ومن ثم ترجمت في مطلع القرن التاسع عشر إلى الروسية والتشيكية وبقية اللغات، وأوضح مهنا أنه في مطلع القرن العشرين يكاد لاينجو كاتب غربي كلاسيكي أو حديث من التأثر المباشر وغير المباشر الصريح والخفي في هذه الليالي، ليصل إلى أن كتباً عربية هامة ترجمت إلى اللغات الأوروبية مثل كتاب ابن سينا وكليلة ودمنة ومختار الحكم ومحاسن الكلم،إلا أنه لم يحظ أي كتاب بما حظي به كتاب الليالي.

وتقاطع الأديب مهنا  مع د. ثائر زين الدين بالاستناد إلى تحليل بورخيس للحكايات في زمن الحداثة وما بعد الحداثة للكتابة القصصية التي تمزج بين الخبر والقصة. ويرى أن التفاعل مع هذا الكتاب لايقتصر على المؤلفين فقط، وإنما يطول المترجمين، وقد منح كل منهم صيغة مختلفة  حتى بات الحديث عن كتب تتوالد من كتاب واحد وتحمل العنوان ذاته.

وأثار الأديب مهنا مسألة هامة وهي الحلم، العنصر الأقوى في السرد العجائبي الحديث، لينتقل إلى  الألغاز المدهشة للكتاب والمفتوحة على تخمينات، وتساؤلات عدة طرحها مهنا، حول إذا كان الكتاب فارسي أم عربي؟ وهل مؤلفه فرد أم مجموعة؟.

الانتقام من النساء

وحول المكونات الثقافية والفنية في ألف ليلة وليلة طرح د. راتب سكر مجموعة أسئلة فيما إذا كان هذا الكتاب ينتمي إلى الأدب الشعبي ؟ وما الفرق بين كتاب من الأدب الشعبي وكتاب من الأدب العربي؟ ليطرح مسألة أخرى وهي أن الكتاب لمؤلف مجهول الهوية وأن عدداً من المؤلفين أسهموا في تأليفه. وليتوقف عند خاصية الحكايات المنفتحة، فكل حكاية تنفتح على حكاية أخرى بما يشبه سرداً روائياً متتاليا،   لينتقل إلى أشكال الحكايات الإغريقية الموجودة في الكتاب مثل الرحلات البحرية والوحش المفترس، ليتساءل د. سكر هل الكتاب عربي أم مترجم عن الفارسية أو الهندية؟ ليجيب بأن الدارسين أجمعوا على أن النواة الأولى للكتاب كانت عن طريق المثاقفة مع الهند أو الفرس، لكن اشتغلت عليه الثقافة العربية ليخرج من لبوس القصاص الشعبي ويصبح عربياً في نهاية الرحلة عبْر قرون.

وانتقل إلى استلهام بعض الروائيين مادتهم الروائية من ألف ليلة وليلة في القرن العشرين مثل رواية هاني الراهب “ألف ليلة وليلتان”، ورواية خيري الذهبي “ليال عربية” ، كما تحدث عن استلهام الشاعر نزار قباني للحكايات، وكذلك حضورها في أدب الأطفال.

تجربة متشابهة

وأكد الباحث نذير جعفر بأنه لايوجد إثبات بأن الكتاب مترجم وبأن التجربة البشرية متشابهة، وأن الكتاب عربي بدليل أنه أدهش الغرب، إضافة إلى أنه يبنى على أجواء الحضارة العربية من حيث الأمكنة والشخوص، أما من حيث طبع الكتاب المهذب فأوضح من خلال تجربته بحضور معارض الكتب العربية بأنه لاأحد يشتري الكتاب المهذب.

السرد الأنثوي

وأثنى الناقد ملهم الصالح على خاصية السرد الأنثوي في سرد الحكايات لألف ليلة وليلة وعلى حضور الحكاية ضمن إطار حكايات أخرى، كما في قصة شهرزاد وشهريار التي تفرع عنها الكثير من الحكايات، واقترح تقويم الشعر الموجود ضمن الحكايات.

ملده شويكاني