منذر مصري القصيدةكما لو أنها حياة كاملة وربما العكس!
دون مبالغة بل وبنوع من التقريب غير المحسوم أيضا، يمكنني من بين أكثر من مئة عنوان لقصائد شعرية تتلى تباعا عليّ، يمكنني أن أعرف أي من تلك القصائد هي التي تخص الشاعر السوري “منذر مصري” هذا بالإضافة إلى العديد من الأشغال الشعرية الصافية والألعاب اللغوية الخلابة، المصاغة ببساطة تشي بأنها كذلك- أي أن القصيدة بسيطة، صناعتها لا يدخل فيها أكثر من فن الكلام المنتقى، لكن الحقيقة هي غير ذلك في قصيدة يمكن أن يراها من يقرأها مجسدة بشخوصها وكأنها ثلاثية الأبعاد وأحيانا من لحم ودم- ثم يتضح أنها عكس ذلك تماما، والأهم هو تلك الروح أو اللمسة الفريدة التي سيشعر بحضورها قراء قصائد هذا الرجل “اللاذقاني” القح، إذا معرفة قصائد “منذر مصري” من عنوانها، هي من الميزات الفنية حقا في هذا الوقت الذي صار فيه الشعر وكأنه مشاع لا حرمة له، وهذا من أهم ما يميز “منذريوس”، أن ثمة شاعر له أسلوبه الخاص، الذي لا يقلد ولا يجارى! وله مريدوه الكثر الذين يحفظون شعره ربما أكثر منه، إنه اليوم في المشهد الشعري السوري “شيخ” طريقة شعرية جديدة، وهذا شأن سيكون للأيام قولها فيه.
وفي الوقت الذي سيفُتن فيه الكثير من القراء، سواء الكلاسيكيين أو من هم على الضفة الأخرى، بالطريقة الشعرية “المُنذرية” التي ستبهرهم ببراعته في حياكته للغة شعرية أليفة، بل شديدة الالفة، وهذه الألفة التي تقبض على القارئ من الكلمات الأولى في نصوص الشاعر المتمرس بتحويل لوحة فنية مثلا إلى قصيدة أجمل من اللوحة ذاتها، هي واحدة من ركائز شعرية “مصري” وشعبيته محليا وعربيا وعالميا أيضا حيث اختير من قصيدته (إن كان محتما علي أن أعبد إلها) مقطعان منها ليطبعا على بطاقات تذكارية ضمن سلسلة “قصائد لأجل عالم واحد”، عدا عن كون قراء شعره سيتلمسون مخمل قصيدته ويشمون “دانتيلها” ويتذوقون عديد مذاقاتها، وهذا لا يعني بطبيعة الحال اتفاقاً عاماً على ما سبق، فثمة من يجد نتاج “منذر” الشعري عموما على العكس تماما، ثمة ن يجد قصيدته “برية” رغم بزتها الأنيقة وتسريحة شعرها المتقنة، -هناك من يجده قاصاً بارعاً للحكاية التي يريد أن يخبرها، إنما بلغته وأسلوبه-، وفي الحالين الجميع مجمع على أن صاحب “آمال شاقة” – أول مجموعة صدرت له مشتركة مع الراحل محمد سيدة والشاعرة السورية مرام مصري- هو من الشعراء السوريين الذين لن يمر ذكرهم في الحياة مرور الكرام، على عكس الكثير من الشعراء، إن كانوا من مجايليه أو من الذين سبقوه إلى قصيدة النثر التي يكتبها ولكن بتقنية بارعة -سنأتي على ذكرها في مقام لاحق-، شعراء ضاعوا بين زحام الأسماء الشعرية الكبيرة، والتي لم تزل حتى اليوم هي المتصدرة للمشهد الشعري السوري، رغم رحيل أكثر عصبتها، وبين محاولتهم “قتل الأب” في مجتمع ليس لديه ثقة بالجديد، بل ويخشاه، لكن عاشقا من الطراز الخاص للسينما ولأروع كلاسيكياتها وللموسيقى الغربية بتنوعها، وقارئا نهما باللغتين العربية والإنجليزية، للكثير من الكتب المتنوعة المواضيع والأفكار، سينظر إلى القصيدة باعتبارها صنعة ماهرة، صنعة شعرية متقنة، لها مكونات ومقادير سرية، لا يبوح “منذريوس” بها بسهولة، إلا أن مقالا نقديا تشريحيا، صاغه الناقد “مصطفى سليمان” مؤخرا حمل العنوان الذهبي التالي “الشعر وتكثيف المعنى عند منذر مصري” ذهب فيه بالمثال نحو قراءة نقدية تحليلية متعددة الجوانب، وذلك في الخوض بمفاصل القصيدة الشعرية – اللغة – المعنى- الصورة – المفردة- الموسيقى- الإيقاع- الموائمة والمناخ، الإيحاء، وكل ما يمكن تضمينه من مفاهيم تحتملها قصيدة لا قواعد فعلية لها، كالقصيدة التي يكتبها صاحب “بشر وتواريخ وأمكنة” المجموعة الشعرية الثانية للشاعر، صدرت 1979- حيث ألقى “سليمان” نظرة تشريحية نوعا ما، لحالة شعرية لا تحتمل التشريح، وإسقاط مفاهيم المدارس النقدية الحداثوية وما بعدها “كالبنيوية” عليها، لأنها وكما ذكرت سابقا، طريقة شعرية جديدة، تدمج بين العديد من الفنون البصرية والسمعية والشعرية الغنائية المخففة موسيقاها وإيقاعها، وبدا مبضعه قاسيا على رهافة وشعرية “منذر” وقصيدته، حيث ينطبق عليه القول “اصطاد عصفورا بصاروخ”، ولست هنا اتبنى رأيا في معرض السجال الممتع والمهم الذي دار بين الرجلين حول المقال، إلا أنه يكفي القول أن لغة كل منهما ستدل على موقفه الشعري عموما هذا كشاعر وذاك كناقد يرى في النقد ما هو متقدم أحيانا على النص ذاته.
وإذ أصف تجربة منذر مصري الشعرية منذ أكثر من نصف قرن حتى الآن، بكونها “طريقة” فهذا قائم على جوهرها الخاص به، حيث يحيا هذا الرجل يوميا حياته في مدينة اللاذقية “التي لم ولن يغادرها”، على أنها قصائد فريدة، بتنوع مواضيعها بين الحب والرغبة والأسى الذي صار يغلب مؤخرا على نتاجه الأدبي، طريقة تتسم قصائدها بالشفافية النقية، وبالصور البصرية البديعة، وبموضوعاتها الحية والخصبة التي تقتفي أثر تفاصيل التفاصيل في الحياة عموما، حيث يمكن ل صاحب “مزهرية على هيئة قبضة يد” الديوان الأشهر له كما اعتقد، أن يقول: “تبا الآن صرت شيخ طريقة شعرية” بعد أن كان قد تذمر ذات قصيدة من كونه صار صاحب أسلوب – تبا صار لي أسلوب كالشعراء- بإمكانه أن يقول هذا، وهو صادق بما يقول.
مختارات للشاعر:
ما عادوا يصلُحونَ
لدفعِ الأيامِ من ظُهورِها
ما عادَ بحوزتِهِم
ما يملأُ الجماجِم
الأصدِقاءُ ما عادوا قتلةَ ضجر.
***
أُحَييهِ هازِلاً:
(هل فعلتَ الشاي؟)
يُجيبُني وعَقبُ سيجارةٍ
عالِقٌ في زاويةِ فمِه:
(لم تأتِ لِشُربِ الشاي
بل لشُربِ الوقت)
فأخلِطُ جِدَّهُ بهَزلي:
(الشاي ليسَ بطيئاً
نحنُ سريعون).
تمّام علي بركات