ثقافة

عطر الذكريات

“الشمّ هو حاسة الذاكرة” مارسيل بروست

كنت ومازلت أراهن على أنّ حاسة الشمّ هي أكثر الحواس التي تلتصق بالذاكرة وبالذكريات. حاسة الشمّ بدأت معي مع قرنفل أمي الطافح بالطهارة المشتق من تكوينات بدوية مثل (المحلب والقرنفل البري, وبعض ورود ونباتات البرية), ومع مرور هذه السنوات على رحيلها المبكر والمباغت, بقي ذاك القرنفل البري يسكنني إلى هذه اللحظة.

أحببت رواية “العطر” لـ باتريك زوسكيند, التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي شاهدته أكثر من مرة, فقط لأصدق إحساسي بالشم, على الرغم من أنني أحببت روايته الحمامة أكثر من روايته العطر.

منذ سنوات مضت قرأت كتاب الأديبة أحلام مستغانمي: (نسيان. كوم) الصادر عن دار الآداب اللبنانية, والذي قرأته مرتين, ومنذ أيام عدت للفصل الذي استوقفني منذ سنوات الموسوم بـ “فصل العطر” الذي كرّس لديّ فضيلة حاسة الشم, التي قد ترديك مضرّجا بعطر يتلبسك كقدر. تقول أحلام: “ليس للنسيان عطر. العطر لا يمكن أن يكون إلا عطراً للذكريات. وقعت على هذه الحقيقة وأنا أبحث لغيابها عن عطر ينقذنا من عطر الذاكرة المرتبط وجدانيا بما عشناه وتقاسمناه مع أحد.., لا يبدو الأمر سهلا, فالإنسان يملك (347) جيناً خاصا بالشمّ, مقابل أربع فقط للبصر, أي أننا نرى ونحب ونشتهي ونحنُّ ونأكل ونتذكر بأنوفنا”.

تضيف مستغانمي: “العطر مزيج من كيمياء الجسد وكيمياء عطر في قارورة. لذا توجد عطور بعدد البشر, وعلى كل امرأة أن تخلق الخلطة السحرية لعطر لن تضعه امرأة سواها, إنه عطر نسيانها الشخصي, الذي تلغي به عطر الماضي وعطر النساء الأخريات في ذاكرة رجل, أو تلغي به زمناً ولّى مع رجل.

لقد كان الرجال في زمن البداوة يعرفون عطر نساء القبيلة واحدة، واحدة، وبإمكانهم رغم الحجاب, التعرف على اسم امرأة عبرت أو غادرت لتوها المجلس مما تركته خلفها من شذى.

وترى أحلام: “أن كل الحواس تعمل عميلة لدى الحبيب تستحضره في الغياب، لكن النظر والشم هما رؤساء العصابة (عصابة الخمسة) إنّ النظر والشم هما الحاستان اللتان تكرّسان الذكرى, أمام أشرس العملاء وأخبثهم الأنف”.

كانت (كليو باترا) ترشّ أشرعة باخرتها بالعطر، حتى يبقى خيط عطر خلفها, يشهد أن ملكة لا تشبه النساء مرّت من هنا.

على حين أن جوزفين, حين تغادر القصر واثقة أنّ (نابليون بونابرت) سيستقبل امرأة غيرها, تبدأ برشّ جدران غرفته بعطرها حتى يظلّ أسير ذكراها, العطر قصاص مستقبلي, إنه يوقظ عبق الذكريات.., العطر لا يرأف بك, إنه أكثر الحواس إجراما عند الفراق, حتى قارورة عطر فارغة قد تتحول, حين فتحها, إلى قنبلة تتفجر فيك, تشلّك في غياب صاحبها.

أحمد عساف