“حلويّات الحلبي” نصوص بطعم الوجع السوري المرّ
ثمّة الكثير ممّا تقوله، دون تبجّح، النّصوص الثلاثة وعشرون، التي بين أيدينا المعنونة بـ “حلويات الحلبي” للكاتب حسني هلال إصدار الهيئة السورية للكتاب لعام 2106م. وقد تزيّت لبوس السّهل الممتنع، لتمتحنَ ذكاء وذاكرة ذائقتنا الأسلوبيّة. خصوصاً وأنّها توسّلت إلى جانب اللّغة الفصحى، ماسمّي يوماً ما، باللغة الثالثة التي تستثمر مفردات الموروث دون الوقوع في مطبّ الفجاجة، والقدامة، أو تقعير المفردات، كما توزّعت من حيث الحجم بين القصر الشديد والقصر، بما يتناسب مع مقولتها ووظيفتها الفنّية المرجوّة كفنٍّ. معتمدةً في تشييد مداميكها على المفارقة والتكّثيف والسّخرية، وإعادة إحياء للقيم النبيلة من مروءة وشرفٍ ونزاهة وقضايا وطنيّة وقوميّة كبرى، كادت تُنسى، خالقة الفجوات الضّروريّة التي تتطلّبها وتيرة تصاعد الأحداث وقفلات الحبكة. وإذا غابت بعض القفلات، فلكي يشارك القارئ برسم خواتيمها أيضاً، محييةً بذلك مجد القراءة باعتبارها إعادة إنتاج للنّص. كما بدت بشكلٍ عام مهجوسةً بهموم الواقع الفجائعي المعاش، الذي يعصف بالكيان الوجودي للإنسان والمجتمع، ويهدّد الهويّة والجغرافيا. والقراءة الحالية ستتناول بعضها بما تتيحه فسحة النشر. فـ”نصّ الكفيل” يؤكّد على صحوة الضّمائر التي لا تُضحّي بثقة الآخرين بها من خلال عقد شفهيّ بين رجلين ينتميان لبيئتين مختلفتين مذهبيّاً، ومع ذلك كانت الكلمة بينهما هي ضمان الوفاء. ونصّ “حلويات الحلبي” العابر للطّوائف والمذهبيّات الضّيقة، توّجَهُ الكاتب عنواناً رئيساً على مجمل النصوص ليجعله نصّاً موازياً لنصّ الحدث السوري الكبير، حيث يسمّي بطل القصّة العسكري الحلبي وليده الذي لم يره باسم “طلال” على اسم زميله من جبل العرب. هذا النص هو الأكثر اكتمالاً من حيث القفلة والشّخصيّات والمفارقات اللّماحة التي فصلت بخيط رفيع بين مستويين للحدث: تخييلي وواقعي، عبرت عليه رؤية الكاتب ونظرته السّاخرة والناقدة لمجريات الأمور. وقد تعمّقت المفارقة أكثر بمعرفتنا أنّ العسكري الذي لم يرَ ابنه، قد خطفَ على أيدي الإرهابيين بعد إصابته بطلقتين، لكن ذلك كلّه، لم يشفع له، بعد عودته بصفقة تبادل للأسرى. من أن يسجن في وطنه لفقده بندقيته. ليطبق عليه الظلم مضاعفاً. ومع ذلك يشتري الحلويات الغالية ليوزعها على أصدقائه وهم يهنئونه بالسلامة، موضّحاً: “إنني لا أعلم متى أسرّح، أو تسمح لي الظروف بزيارة أهلي، هذا إذا بقيت على قيد الحياة”. ولا تكاد تنتهي مفارقة إلا لتبدأ أخرى، حيث ينسى العسكري حلويّاته الغالية الثمن ضمن أمتعة الشخصيّة الأخرى/العاشق الذي تبرّع لمساعدته عن طيب نيّة، بترتيب أغراضه. الأمر الذي لم يوقف عذاب ضميره تجاهه، سوى ثقة حبيبته العالية به، وبأنّه ليس ملاماً بذلك، خصوصاً بكونه لا يعرف اسماً العسكري ولا عنواناً، حتى لو حاول البحث عنه. أمّا نصّ “النافذة ” فقد أضاء جانباً نفسيّاً وجوديّاً يعيشه الكائن الوحيد. وهو ينظر إلى الأشياء من خلال النافذة، التي تريه ما منعه المجتمع بتابواته من محاولة الاقتراب منه. لتنشط لديه التهيؤات والتّخيّلات كتعويض عن واقع مجحف يحجب الكثير من الحقائق عن الكائن ويرغمه على التفتيش عن أقنية غير صحيّة لإشباع رغائبه وتلبيتها ولو بطريقة مواربة. وما الناّفذة سوى الثقب الذي أحدثه السارد للشخصية لتتنفس بحرّية مع مخيلتها. كما هو شأن أي كائن يبحث عن زاوية رصد في جدار الوجود باحثاً عن معنى وجوده في هذه الحياة. وشخصيّة الطّبيب النّفساني تدلّ على أنّ المجتمع السوري بما تعرّض له من انهيارات وشروخ عميقة بحاجة لعلاج طويل الأمد ليشفى من أمراضه المزمنة. ونصّ “أبو حلب” يلقي الضّوء على الذاكرة الشّعبيّة المتنوّرة من خلال شخصيّة ترى وتراقب كلّ شيء رغم صمتها ـ هي الضّمير الشّعبي الرافض لموت القضايا الكبرى “قضية فلسطين”ـ بعين ناقدة متفحّصة لما يجري حولها من تبدّل للمفاهيم والقيم، حيث المخيّم الذي أريد منه أن يكون حالة مؤقّتة للإنسان الفلسطيني الذي سيعود يوماً إلى وطنه. لم يعد يملك سوى تسميته، فبيوته تضاهي بيوت دمشق العاصمة علوّاً، من حيث الهندسة العمرانيّة، وقد رصد النّص أيضاً شخصيّة المثقّف المقموع “عبود” وجعلها رديفة للشّخصيةّ الشّعبية. يقول السّارد: “بدأ عبود منذ زمان يدرّب نفسه على الإقلال من الكلام وقد توصّل إلى نتائج مرضية في هذا المضمار، وكان لنتائجه أثر واضح على حواراته مع نفسه التي أخذت نسبتها في السنوات الأخيرة ترتفع بشكلٍ لافت” وهذه حالة رصدها يوماً، المسرحي الر احل “سعد الله ونوس” موضّحاً أنها تكثر في ظروف الاستبداد بأشكاله المختلفة. وفي نصّ “أجوبة بتهوي” أضاء الكاتب موضوع ديمقراطية التّربية التي تحفّز الأطفال على طرح الأسئلة بكامل الحرّيّة أمام الأهل. فحين يحاول الأب التملّص من الأسئلة الطفولية المحرجة، بقوله لطفله: أسئلتك بتهوّي، يردّ الطفل: “بابا، أسئلتي بتهوي، أم أجوبتك”.
نص “حواش على متن المحبوب” يدعو لتطوير موهبة الإصغاء للآخر. حيث تتعدّد قراءة نصّ الأنوثة عالي الشيفرات، هو كما النّص الأدبي عالي الدلالات حسب طاقة المؤوّل والعاشق.يقول السارد: ” تدّعى السيدة “نون” أنها ليست مسؤولة عما تتسبّب به القراءات المختلفة لنصوص جسدها، ورسائل عينيها من إلهام وإبهام وأوهام. تلقى أوّلاً وأخيراً على عواتق قارئيه”. نصّ “المتجهّم” بسخريته اللّطيفة، ذكرني بقصّة تشيخوف “موت موظف” ربما لاعتماد الاثنين على المفارقة والسّخرية، حيث ينتقد الكاتب ظاهرة ثقافية طفت على وجه المشهد الثقافي، وهي التّنطّح للمواضيع الكبرى من قبل شخصيات لا تملك أي حضور كاريزمي أمام الجمهور. مع إعطاء شخصيّة المتجهّم تأويلات مختلفة ـ حيث يبدو للآخرين كمخبر مثلاً ـ تنجح في كسر أفق التوقّع لدى القارئ، فالحدث يوضّح فيما بعد، بأنّها تكنْ تسمع المحاضر أبداً. كما أكسبتْ الشّاعرية، الكثير من منعطفات النّصوص، الماء اللازم لتسير برشاقةِ جدول. يقول: “تحت المطر يصير لكلّ من ثيابها رسمه الخاص على دفتر جسدها (…) وتروح ناهد تتحرّر من ثيابها كنارنجة تشلح أوراقها ورقة فورقة،عارضة للّيل والقمر وزوجها وساهر ما استضلّ بها من جمال واستعزّ عليها من ثمر”.
أوس أحمد أسعد