ثقافة

“مملكة ماري –فردوس الفرات”..التقاطعات التاريخية لاتزال ماثلة!

القيثارة نغمات الأحلام.. كانت آلة أساسية ضمن تشكيلة الفرق الموسيقية في مملكة ماري، موسيقا ماري التي اشتغل عليها الموسيقي رعد خلف وكانت محوراً ضمن أبحاثه الموسيقية للحضارات القديمة، حيث تلتقي الآلات الوترية والإيقاعية والهوائية، ولعل موسيقا ماري هي أكثر الفنون التي مازالت حاضرة في وقتنا المعاصر، وقد أغرت د.رحيم هادي الشمخي ليفرد لها فصلاً في كتابه “مملكة ماري” فردوس الفرات.
دوّن الباحث ضمن كتابه التاريخ الموسيقي لماري حينما كتب عن المدارس التدريبية التي كانت تتبع للقصر الملكي، وعن العلاقة القوية التي تربط بين رئيس الموسيقيين وعازفيه، كما نرى الآن في علاقة المايسترو مع العازفين في الفرق  الكبرى المعاصرة. وتوقف عند الآلات التي دلت المكتشفات على وجودها، ومن أهمها القيثارة ذات الأوتار التسعة المصنوعة من خشب الصندل، لينتقل إلى الناي المصنوع من خشب الأبنوس، وأوضح الباحث بأن أقدم مشهد موسيقي اكتشف في موقع ماري ويدل على تطور مفهوم الدوزنة المشتركة، حيث أدرك الموسيقيون السوريون من خلاله دوزنة الآلات الموسيقية وفاعلية السلم الاستهلالي المفتوح، وهذه المرحلة أسست لظهور النوتات الموسيقية.
ولم يقتصر البحث على الآلات والألحان وإنما دلت المكتشفات على المشهد الغنائي من خلال تماثيل لمغنين مثل بجالس وإيبلول وأوررنينا المغنية الكبرى.
والممتع في الكتاب أن الباحث حلل طريقة تعامل الإنسان مع الصوت قبل معرفة اللغة، فكان يستخدم أدوات تساعد على التصاعد الصوتي لاعتقادات خاصة مثل التصويت على العظام لإبعاد الأرواح الشريرة.

البيت الدمشقي والأمثال
وأوجد الباحث علاقة ما بين الحياة الاجتماعية في ماري وبين خصوصية دمشق القديمة من حيث أساس الطراز المعماري للبيت الدمشقي القديم، فكانت بيوت ماري مصنوعة من اللبن التي تشبه بناء البيت الدمشقي، إضافة إلى صناعة الزيوت والعطور والمجوهرات وأواني الشراب المزخرفة،والستائر وأغطية الأسرة.
وامتدت الأبحاث لتدل على طبيعة التشابه والتقارب من خلال الأمثال الشعبية، ففي إحدى الوثائق لممكلة ماري رسالة من حاكم المدينة إلى ابنه يستخدم فيها مثلاً شعبياً ما يزال دارجاً حتى الآن ويتكرر ذكره “الكلبة من عجلتها ولدت جراء عميان”، أما من حيث التقاطع مع الحياة الاجتماعية فدلت الوثائق على وجود جمعيات للفقراء أطلق عليها اسم “الموشكينوم” وتعني المساكين.
ومن الموسيقا إلى العمارة إذ أفرد الباحث مساحة من صفحات كتابه لتدوين المكتشفات التي دلت على القصور، وخلال بحث المنقبين في سبر التل 1اكتشفوا قصراً نُسب إلى عصر الشكان وبقي قائماً حتى عصر زمري ليم، ويتألف من ثلاث كتل معمارية هي أجنحة القصر تتوسطها الباحات وهي صغيرة أو كبيرة مربعة أو مستطيلة تتجمع حولها الحجرات الكبيرة والصغيرة، وتابع الباحث الحركة الداخلية للقصر عبر مدخل ضخم.
كما اشتهرت ماري بالمعابد نتيجة الدور التجاري الذي قامت به مع ما وصفه الباحث بشقيقتها في بلاد ما بين النهرين، فعثر فيها على معابد للأرباب عشتار ونين خوسنجت وشمش وعشتارات ونيني زازا وجميعها منسوبة إلى أواسط الألف الثالث ق.م، من أشهرها معبد الرب “دجن” ويتصف بقاعة مستطيلة لها مدخل واحد في الجدار الشمالي ويتقدمه رواق. والغريب كما ذكر الباحث بأنه لاتوجد في القاعة إنشاءات معبدية وإنما يعتمد على روح البساطة.
ومن خلال نقوش الأختام واللوحات التي احتل فيها الرب مكاناً بارزاً يتضح المشهد الديني الذي يشير إلى الابتهالات، كما تنقش الزخارف الهندسية على الأختام، ومن أشهرها الختم الذي يظهر فيه رب الشمس ويعود إلى تاريخ عصر الشكان، وللأختام أهمية كبيرة لأنها تمثل تمسك الحكام واعتزازهم بقيامهم بفروض الطاعة للأرباب مثل الختم الأسطواني لصاحبه ” إدي دجن” الذي عاش في عهد الشكان، ونقش على سطحه مشهد المثول بحضرة الرب.
كما اشتهرت مملكة ماري بفن النحت فعبّر فنانوها عن اتجاهات العصر الفنية وتياراته الفكرية فساهموا في حركة إبداعية، من أجملها تمثال بوزور عشتار بطول 175م، من الحجر الأسود عُثر عليه بمتحف نبوخذ نصر، ويبدو الرأس مفصولاً عن الجسم وأخذ الرأس إلى متحف الدولة ببرلين والجسم إلى متحف استنبول، ووفق الأنموذج ذاته امتدت الزخارف الجدارية في قصر ماري.
تقاطع مع الثقافة السورية
ومما يدل على التواصل بين مملكة ماري والحياة السورية المعايير التي شكّلت القاعدة الثقافية الأساسية لعالم الألف الثالث في المشرق العربي، فتم التمازج بين الثقافة الرافدية مع الأكادية والعمورية، إذ تمثلت الثقافة السومرية الأكادية وأضافت عليها، ومن ثم مع كل الأرومات الديموغرافية.  وقد منحت ماري مساحة من الحرية للغرباء فكان يحق لهم إنشاء جمعيات ونقابات تعنى بشؤونهم.
كما تطرق الباحث إلى الحركة التجارية النشطة وتأسيسهم جمعيات تضمن حقوقهم وتحل مشكلاتهم، وكان التنقل وفق نظام الملاحة مستقل تحكمه جمعيات خاصة، تضمن الوصول إلى مرفأ مدينة إيمار-مسكنة حالياً-وأضاف الباحث الوثائق التي تدل على قوة صناعة الحديد وورشات تصنيع البيرة ومستودعات الثلج لتخزين النبيذ.
ولم تكن الحياة التجارية والصناعية هي السائدة في مملكة ماري فقط، إذ انتشرت الزراعة على نطاق واسع وتطورت وسائل الري عبر الأقنية والسدود والسواقي، فازدهرت زراعة الكتان بفضل نهر الفرات، وأدى تطور الزراعة إلى استخدام المعادن مثل النحاس.

المرأة الملكة
واحتلت المرأة مكانة مرموقة في مملكة ماري كما دلت عليه النصوص الموثقة فكانت جزءاً أساسياً وفعالاً بالحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، واستشهد الباحث “بشيبتو” التي تزوجت من الملك “زميري ليم” واستطاعت بحنكتها أن تشترك مع الملك بالحكم، فكانت تقوم بمهام داخل القصر وخارجه، فهذه المرأة حلبية الأصل خلّدها التاريخ إذ قادت مملكة ماري أثناء غياب زوجها في غزواته، ودلت النصوص أيضا على الدور الذي قامت به “أدو –دوري” الملكة الأم في حلب.

التوثيق المرئي
وبعد السرد التاريخي التوصيفي لمملكة ماري الواقعة على مقربة من نهر الفرات على الحدود السورية –العراقية التي لعبت دوراً في حضارة الشرق القديم، أفرد الصفحات الأخيرة للتوثيق المرئي من خلال خارطة موقع مملكة ماري في الجمهورية العربية السورية، إضافة إلى تمثال لمغنية المعبد أورنينا وتمثال لربة الينبوع، وبعض الرقم التي وجدت في مملكة ماري والرسومات الجدارية في القصر الملكي ومجموعات من القطع الأثرية.
وكما كتب الباحث في مقدمة كتابه “حضارة مملكة ماري هي أروع اكتشاف في تاريخ سورية الحديث”، نقول: إن هناك الكثير من التقاطعات والتشابهات بين حياتنا اليوم والحياة التي كانت سائدة في مملكة ماري.” مملكة ماري –فردوس الفرات –صادر عن دار بعل جاء في 182من القطع الكبير.
ملده شويكاني