الإصغاء إلى الصّمت
أوس أحمد أسعد
إذا كانت “الحَيرة” زهرة الحكمة، فلابدّ وأنّ “الصّمت” طريقة الكلام في الفواح. أو لعلّه ملء مسامات البياض بغيم الدلالة حين تشرد غزلان الحروفُ في غابة التّأمّل. وبالمعنى الاجتماعي يعتبر دفاعاً سلبيّاً ضدّ سطوة الاستبداد وكمّ الأفواه، الذي تطبّقه سلطة ما تجاه معارضيها. كما أنّه وسيلة المرأة التّقليديّة،تاريخيّاً تمارسها طواعية أو استلاباً اتقاء لذكوريّة المجتمع وقيمه المهيمنة. بين الصّمت الإيجابي أدبيّاً، والسّلبي اجتماعيّاً مسافة شاسعة. في الأدبي، توقفنا سلطةُ النّصّ بلحظة تسمّى “تعليق القراءة” لارتشاف ما تمّ سكبه في كؤوسنا من نبيذ الكلمات المعتّقة،لنعيد صياغتها بقراءتنا التّفاعلية. وفي الاجتماعي توقفنا سلطة الاضطّهاد لننساق كالمسامير وراء مغناطيسها العالي المغنطة، وهي تستمرئ فعل إخضاعنا، وإرغامنا على تقبّل ما تلقننا إيّاه. وللأسف الشّديد،حين نكبر يفقد أغلبنا تدريجيّاً موهبة التعبير عن حيرته ويدّعي المعرفة الوسيعة،كيلا يبدو في موقع الدّونية. غير مدركٍ بأنّه بات يفتقر للميزة الأهمّ التي أقام الإنسان على مداميكها صرح المعرفة والفنون،وحسب ــ أقصد الدهشة ـ سليلة السؤال والمعرفة . وهنا يحضرني مفهوم المثقف باعتباره منتج المعرفة الجديدة، وحامل لواء التغيير،الذي يوضّح التباسه،النّاقد الروائي “أمبرتو إيكو”،بقوله: (الفلاح الذي يفهم نوعاً جديداً من التّطعيم يمكن أن ينتج أنواعاً جديدة من التفاح،هو يملك آلية إنتاج فعالية ثقافية،وأستاذ الفلسفة الذي يكرّر طوال حياته المحاضرة ذاتها عن “هايدجر” لا يرقى إلى مثقّف) .إذاً، ليس المطلوب من المثقف بالضرورة الانتماء لحزب سياسي وكتابة بيانات استنكارية شاجبة، لتفعيل وظيفته الثقافية بل لابدّ من سعيه لإنتاج خطاب إبداعي ثقافي مهمّتة، غربلة الفكر الاستنساخي الاجتراري الذي لايقول شيئاً سوى إعادة إنتاج القديم والقارّ. فالبحيرة الرّاكدة بحاجة لرمي الحصى دوماً.ودور المثقف هو معرفة متى وأين يجب عليه رمي هذه الحصى، لإقلاق ركودها واستكانتها،لا الوقوف صامتاً وحسب.وكما قيل: إذا كنت في مسرح واندلع حريق،فليس عليك كشاعر أن تصعد فوق مقعد لإلقاء قصيدة،بل عليك استدعاء رجال المطافئ مثل أي شخص آخر.
وعودة لمفهوم “كتابة الصّمت” باعتباره رمزاً لثقافة اجتماعية تؤطّر حياة وبيئة المرأة، وانعكاساً لما تستهلكه من خطاب ثقافي في مجتمع بطريركي.تلُقي “فرجينيا وولف” اللّوم على رب البيت مباشرة حيث الصّمت في قلب البيت البطريركي يتكرّر في بنية العلاقات الاجتماعية ليصبح المجتمع، أباً هو الآخر، حسب تعبيرها في قصّة “ثلاثة جنيهات”.وتدلّ على ذلك بطفولة رموز رائدة في مجال النضالات النسوية كـ”ماري وولستنكرافت” التي وقفت خلف أفعالها وأفكارها الثورية.مقارنة بـ “جين أوستن” التي لم تكن حياتها العائلية صارمة جداً.مستشهدةً بقصيدة “أورورالي” لـ “إليزابيت براوننغ”كمثال على سلطة الأب التي تثير مشاعر السخط والاستياء لدى النساء. تقول “وولف” بأنّ قارئ هذه القصيدة سيكتشف كم حوصرت الشاعرة بطغيان أبيها لتبدو بعزلة راهبة في غرفة النوم”.
تمضي “ديل سبندر” في توضيحها للصّعوبات التي تقف في طريق الكاتبات بالقول: إنّ الواقع المهيمن يجبرهنّ على قبول حقيقة بأنهنّ لا يستطعن الكتابة لأنهن “تابعات” وليس لأنهنّ حرمنَ من إنتاج الأشكال الثقافية، وأنهنّ بلا صوت ومرغمات على الّصمت.وعلى النساء رفض شرعيّة هذه التبعية والتّغلب على عراقيل هذا الحرمان. وأثناء ردّها على مقالات “أرنولد بينيت” 1920م المعنونة بـ “نساؤنا” والتي يزعم فيها تفوّق الرجال الفكري، على النساء تقول “فرجينيا وولف”: (من الطّبيعي أنّني لا أستطيع الزّعم بأنّني أعرف الإغريقيّة كما يعرفها السيد “بينيت” ولكن لماذا يماطل في احتمال أن تكون مؤلفة “الأوذيسّة” امرأة؟ وأنا أعرف أنّ “سافو” هي امرأة وأنّ أفلاطون وأرسطو وضعاها في مصاف هوميروس وأرخيلو كوس بين أعظم شعرائهم).
وفي محاضرة لها حول موضوع قلّة النساء الكاتبات مقارنة بالكتّاب الذّكور،أمام جمعيةّ الفنون في “نيو تهام” 1928م قالت “وولف”: (إنّ الأسباب التي جعلت الروائيات لفترة طويلة قليلات العدد مرتبطة إلى حدٍّ كبير ببنية العائلة: فلم يكن التأليف في غرفة استقبال سهلاً، وكان يتعيّن على النساء وهنّ يمارسن الكتابة أن يحاولن تكييف أنفسهنّ للمعايير الأدبية السّائدة، وهي معايير ذكوريّة في الغالب بينما المطلوب خلق معايير خاصة بهنّ. يتعيّن عليهن خلق اللغة لكي تصبح أكثر مرونة وقابلية على الاستخدام المرهف).
تتشكّل طقوس الصّمت عند المرأة حسب “وولف” من ازدواجيّة الانتماء واللّاانتماء. هي كائن شُكّلَ بصبرٍ ليصغي إلى الرجال،لذلك إذا صوّر الصّمت منظوراً إليه من الداخل كتعبير عن نموذج واقع، حينها يكون صمت النساء حضوراً ونصّاً ثريّاً ينتظر تعدّد القراءات والمزيد من التأويل لتفكيك كثافته النّاطقة. وهنا يشير كتاب “الإصغاء إلى الصّمت” لـ “إيلين هيجز وشيلي فيشكين” الذي اتّخذناه عنواناً لمقالتنا، إلى أنّ: (الصّمت يعني من ناحية كمجاز، كوجود نصّي، كرمز لكلّ الظروف الماديّة التي تحرم الإبداع الإنساني: الافتقار إلى الوقت ،المال، الدّعم العائلي والاجتماعي،تقاليد المرء الخاصّة وثقته بحقّه في اللغة العامّة والخطاب المتيسّر الذي يوفّر له فرصة قول الحقيقة ومن ناحية ثانية يعني غياب النّص، الاضطّهاد، التّناقض، والموضع الذي تقيم فيه الأيديولوجيا).
وفي النّهاية، يمكننا قراءة “الصّمت النّسوي” واقعاً وتاريخاً وكتابةً، بأنّه مازال منهج مقاومة وخيار نضال، في طور السّلبيّة. يقول كتاب “لغة مالا يقال” لكاتبيه “فوولفغانغإيزر وسانفود بريان”: (ما إن نواجه حدود ما يقال لابدّ أن نعترف بوجود الأشياء التي لا تقال، وعبر لغة تتشكّل، بطريقة ما، على أساس الصّمت، نعبّر عن ذلك الذي لا يمكن فهمه). فهل نجيد الإصغاء؟!.