ثقافة

الفن يحذركم من نفسه

تمّام علي بركات

يُعتبر الفن هو التأريخ الأكثر مصداقيّة للأحداث، لأنه لا يستهدف التأريخ مباشرة، فمن يستهدف كتابة التاريخ مباشرةً يكذب دوماً، وغالبا يأتي تأريخ الفن للأحداث بشكل غير مباشر ومقصود، وهنا يختلف الإبداع ومفهومه بين فنان وآخر وبين فن وآخر أيضا، والأمثلة على هذا كثيرة سواء في التاريخ القديم أو الحديث، فيحكي مثلا المفكر الفذ “هادي العلوي” عن كون القصيدة العربية الكلاسيكية كانت وما زالت واحدة من أهم المصادر التي قدمت توثيقا حقيقيا ودون زيف عن المرحلة التي كانت فيها، حيث حملت هذه القصيدة بعمومها أحوال اهل زمانها وطبائعهم وعاداتهم وأهم الأحداث التي مروا فيها.
إلا أن هذا الاعتبار الذي نال الفن بأنواعه من خلاله مكانته الخالدة بين العصور، يبدو أنه وصل في مرحلتنا الراهنة لأن يكون شاهد زور لا يخشى ملامة أي كان في تقديمه للزيف وترويجه له، حتى وهو يعلم أنه يكذب ويقدم الدم الكذب على القميص الذي صار عبرة في الزمان، الفن اليوم صار سلعة تجارية بأنواع مختلفة، سلعة منوعة فيها كل ما تشتهيه النفوس التواقة للجماد والخراب ونكوص العالم على رأسه، سواء ذاك الذي يأتينا كما علب “الشوكولاته” مغلفاً وملفوفاً بورق لامع، أو ذاك الذي نصنع بعضا منه بقصد ودونه، ونساهم أيضا بقصد أو بدونه بتكريس حالة انحطاطه.
ما نراه اليوم من فنون – هذا إذا صح بعد هذا أن نسميها “فنون”ما من مهام جسام تحملها بين أضلاعها، كالتنوير وتربية الذائقة الجمالية، والنهوض بالمجتمعات التي تحاكي نهضته وتطوره، والأهم أنه فقد السمة التي لأجلها نال حظوته في كونه حمّال فكر وحق وجمال، ألا وهي “تأريخه” غير المباشر لملامح وخصوصيات كل زمان وكل نهضة وكل انحدار حتى – كما في قصيدة البحتري “إيوان كسرى” وما فيها من أرشفة حقيقية لوضع البلاد والعباد حينها، الفن  بعمومه اليوم يا سادة ينحدر ككرة من نار تحرق ما هو واقعي وحقيقي وقائم على التجربة الإنسانية والفكر النيّر الوضاء، تاركة خلفها جثث حقائق زيفت أرواحها، وكلام عظيم تم تحريف معناه، وحكايات صارت العبرة فيها حسرة، وهكذا.
الفن اليوم الذي نراه على كامل مساحة وطننا العربي أولا والعالم ثانيا يذهب نحو الهذيان والسكر والعربدة وتحطيم القيم وإذلال العاقل، ورفع الوضيع، للأسف بات هذا حاله، هكذا صار موجودا–إلا ما رحم ربي- في الكتب وعلى الشاشات وفي كل مكان طالته لوثة المال في هذا العالم المجنون، الذي صار يحيا على إيقاع أسهم البورصات العالمية، فيما كان سابقا يصحو على إنجاز علمي، وينام على كتف قصيدة، المال القادر على تحويل مفكر وكاتب وفنان إلى “كومبارس” يقفون خلف قاتل يشحذ السكين ليذبح طفلة أو ليشرد أسرة أو ليهدم دار علم. وستكون مهمة صعبة وقاسية وجسورة للأجيال القادمة إن حاولوا أيضا أن يعتبروه – أي الفن-مؤرخا، لينهلوا مما حفظ في ذاكرته من أحداث ووقائع، علهم يتفادون المصائب والنوائب التي كابدنا، فإذا فكروا في هذا مثلا، على من سيعتمدون على باب الحارة؟ أم على القصائد التي لا رأس لها ولا قدم، أو ربما على القصة التي صارت سرقتها أسهل من كتابتها!.
لا تنحدر الأمم طالما كانت فنونها عالية الهمة، جسورة الطرح، نبيلة المقاصد، عظيمة بما هي عظيمة فيه، والعكس صحيح، فاحذروا فنونكم.