ثقافةصحيفة البعث

تحدّياتٌ ومسؤوليّات في عصرِ تكنولوجيا المعلومات

 

 

إنّ واقعَ الطفل اليوم أشدُّ تعقيداً ممّا كان عليه في الأزمان السالفة، إذ كان الطفل يُبنى ثقافياً عبرَ حكايات المعلمين في أوقات الفراغ في المدرسة وعبرَ قصص الأمهات والآباء قبل النوم، والقصص التي كانت ترويها الجدّات في السهرات العائلية.. أمّا اليوم، وتحت وطأة الظروف الاقتصادية، لم يَعُدْ مُتاحاً للطفل مَنْ يروي له قصةً أو يقرأ له كتاباً، ولم تعد هذه المحافلُ العائلية تنعقدُ كما كانت في السابق، فالجميع مشغولٌ بالسعي وراءَ لقمة العيش ومتطلبات الحياة، كما أنّ طفلَ اليوم أصبحَ خاضعاً للتكنولوجيا الحديثة في وجوهٍ كثيرة، من التلفاز إلى الحاسوب إلى الهاتف المحمول والأجهزة الذكية بمختلف أنواعها، فلم يَعُدْ ذلكَ الطفلَ الذي تَشدُّهُ حكايةٌ قبلَ النوم أو كتابٌ ورقيٌّ يُطرَحُ بين يديهِ وكفى.
إنّ لجيلِ اليوم خصوصيةً لم تكن متوافرةً لجيل الأمس، ولا سيما مع التطوّرات التكنولوجية التي فرضتْ نفسها علينا بوجوهِها المختلفة، وجعلتْ أطفالَ اليوم يتطلعون إلى عوالـمَ من المعارف والفنون لم تكن متاحةً لأطفالِ الأمس، وصارَ من الواجب على الآباء والأمهات أن يُواكبوا هذا العصر بأبعادِهِ كافّةً بغيةَ الإشرافِ البنّاءِ على أطفالهم في تعاطيهم مع التكنولوجيا الحديثة، وترشيد هذا التعاطي بحيث يكون الأطفالُ في مأمنٍ من مخاطر هذا العالم الإلكترونيّ الجديد، وبحيثُ يُحقِّقُونَ في الوقت نفسه الفائدةَ المرجوّةَ منهُ في ميادين حياتهم كافّة.
ولا ريبَ في أنّ هذا الـعالمَ الإلكترونيَّ الجديد سلاحٌ ذو حدَّين، فمن جهةٍ يمكن أن يكونَ له نفعٌ كبيرٌ للطفل في شتّى المناحي، ومن جهةٍ أُخرى يضعُ الطفلَ في مخاطرَ كثيرةٍ إذا ما تُرِكَ دُونَ ترشيدٍ وإشراف، إذ قد يقعُ الطفلُ عرضةً للجرائم الإلكترونية المتنوعة كالاحتيال والاختطاف، إضافةً إلى التأثيرات النفسيّة الخَطِرَة التي يُخلِّفُها تعاطيه مع مواقع إلكترونية تُقدِّمُ ما هو مُخِلٌّ بالآداب أو تُقدِّمُ تشويهاً لثقافة الطفل وبراءته، ولا سيما أنّ الغزوَ الثقافيّ الممنهج في هذا المجال كبيرٌ ومُتجذِّرٌ، ومن أبرز تجلِّياتهِ الألعابُ الإلكترونية التي تغزو الأسواق، وما يُحدِثُهُ كثيرٌ منها من تأثيراتٍ سلبيةٍ في شخصية الطفل عبرَ سُرعةِ تأثُّرِهِ بالشخصيات التي تُروِّجُ لها والمواقف التي تتبنّاها، والتي تكونُ غالباً غريبةً عن ثقافتنا، وقد سمعنا كثيراً عن حوادثَ مؤلمةٍ تعرّضَ لها أطفالٌ أبرياء جرّاءَ انغماسهم المستمرّ في هذه الألعاب. وتلعبُ الأسرةُ والمجتمعُ دوراً كبيراً في ترشيد استخدام الطِّفل لهذا العالم الإلكترونيّ، وفي كيفية تعاطيه مع الأجهزة الذكيةِ وما إليها، فإجبارُ الطفل على القطيعة الكاملة مع هذا العالم أمرٌ غيرُ منطقيٍّ، والتَّشدُّد في ذلك يتركُ آثاراً سلبيةً في نفس الطفل، وفي المقابل أن نتركَ الطفلَ يتعاملُ مع هذا العالم الإلكترونيّ وفق هواه دون أيِّ إشرافٍ سيُودي بالطفل إلى التهلكة، لذلك فإنّ التعاطي الأمثل معَ هذه القضيّة هو حرصُ مُؤسّسات المجتمع المعنيّة بالطفل بما فيها المدرسة، وحرصُ الأسرة على بناءِ منظومةِ ترشيدٍ واعيةٍ لتعاطي الطفل مع هذا العالم ومع أدواته المختلفة، ويبدأ ذلك بضرورة دعوة الطفل إلى حالةٍ من التوازن في استخدامه التكنولوجيا المعاصرة، وذلك مثلاً بتنظيم وقته يوميّاً بين مطالعةٍ لكتابٍ ورقيٍّ مفيدٍ، ومتابعةٍ لأحد المواقع الإلكترونية التي تُعنى بالتعليم والتثقيف عن طريق اللعب، وبين استماعٍ إلى أغنيةٍ طفليّةٍ جميلة هادفةٍ، ومشاهدةٍ لفيلمِ رسومٍ متحركةٍ سليمِ المقاصد، وهنا يجبُ التنويه بضرورة أن نُوفِّرَ للطفل أوعيةً إلكترونيّةً مفيدةً وممتعةً، فعلى سبيل المثال يجب إيلاء الكتاب الطفليّ الإلكترونيّ أهميّةً فائقةً، وتشجيع دور النشر على إنتاجه بمضامين سليمةٍ وأشكالٍ مبهجةٍ وتوفيره بين أيدي الأطفال، وهنا أشيدُ بالدور الذي بدأت تلعبه الهيئة العامة السورية للكتاب، فقد أنتجتْ وتنتجُ عدداً من الكتب الناطقة للأطفال في غيرِ جنسٍ أدبيّ وبأسعار مناسبة، ولا بد من تعميم هذه التجربة وتشجيعها، فكم من المهمّ والضروريّ مثلاً أن تُوظَّفَ مجلةٌ مثل مجلة أسامة الموجهة إلى الأطفال، والتي تصدر منذ أكثر من خمسين عاماً عن وزارة الثقافة في كتابٍ إلكترونيٍّ ناطق يُنشَرُ بين الأطفال، وقد كان للمجلةِ تجربةٌ في هذا المجال عام 2015، ونأملُ أن تتطوّرَ هذه التجربة لتصبح مجلّةُ أسامة صادرةً في كلِّ عدد بالشكلَينِ الورقيّ والإلكترونيّ.
لقد بات من الـمُحتَّـم علينا تجاه أطفالنا أن نُواكِبَ المعطيات الجديدة للعصر، إذ ليس بالإمكان أن نعملَ على أن يكونَ أطفالُ اليوم نُسَخاً عن أطفال الأمس، فلكُلِّ زمنٍ خصوصيتُهُ وثقافتُهُ وطرائقُهُ الخاصة في الثقافة، لذلك فإنّ تحصينَ الطفل في عالمه الجديد هذا هو السبيلُ الأمثل، فعلينا أن نكونَ إلى جانبِه في كلِّ ما يَتلقّاهُ ويتعاملُ معه، نمدُّ له يدَ العون والإرشاد. وفي هذا السِّياقِ يبقى التشجيعُ على نشرِ الثقافة الإلكترونية الهادفة بمختلف أوعيتها عاملاً مهمّاً في تقديم النافع والمفيد لطفلنا في وجه ما يزخرُ به العالمُ الإلكترونيُّ من مخاطر، فحينَ يجدُ الطفلُ البديلَ الأكثر تشويقاً وفائدةً سينجذبُ إليه، ويتلقّاهُ بحُبّ. ولا ريبَ في أنّ مشروع النشر الإلكترونيّ للأطفال مشروعٌ ضخمٌ يحتاجُ تنفيذُهُ إلى رعايةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تنهضُ بها مؤسساتُ المجتمع كافّة، ولا يمكن للجهود الفردية أن تُصبحَ فاعلةً في أرض الواقع إلا إذا انضوتْ تحت مشروعٍ وطنيٍّ شاملٍ في هذا الباب.
إنّ أطفالَنا أمانةٌ في أعناقنا، وواقعُ تربيتهم وثقافتهم يجبُ أن يكون شُغلَنا الشاغل، إذ علينا أن نُوليَهُ الأولويةَ في الفترة الراهنة على الرغم من جميع التحديات الأُخرى، فالأزمةُ الحقيقيّة كما اتّضحَ هي أزمةُ إعداد الإنسان القادر على بناء مجتمعه الحضاريّ والحفاظ عليه والدفاع عنه، وأطفالُنا هم أملُنا الأوّلُ والأخير في ذلك، وعليهم المُعوَّل في تحقيق مطامحنا المُشرِّفة في أجملِ صورةٍ وأعمقِ مضمون.
قحطان بيرقدار